دراسة في ارتباطها بصلاة المسافر
قال تعالى: وإذا ضَرَبْتُمْ في الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً. النساء 101.
الآية الكريمة ذكرت أن التقصير إنما يترتب على الضرب في الأرض والخوف من فتنة الكافرين، ولذا يمكن أن يدّعى أن الآية لا ترتبط بصلاة المسافر الذي لا يحصل له خوف، فما هو مقتضى التحقيق في هذه الجهة؟
المقدّمة
إن مباحث صلاة المسافر من البحوث الفقهية التي تعمّقت فيها الدراسة واتّسعت اتّساعاً كبيراً، وذلك لما زخرت به من نصوص كثيرة ومختلفة في مضامينها ودلالاتها وتفريعاتها.
وإحدى هذه المباحث هي: (دراسة ارتباط آية التقصير بصلاة المسافر) بغض النظر عن الحكم، هل هو الوجوب أو الرخصة.
فالبحث المقصود في هذه المقالة إنما يكون من جهة تحديد الموضوع لا الحكم، إذ الهدف إثبات أن آية التقصير ليست أجنبية في موضوعها عن صلاة المسافر العادي، الذي هو الموضوع المشتهر لحكم القصر في الصلاة.
ويقع البحث في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: بيان معاني المفردات، وشأن نزول الآية، ونماذج من كلمات المفسرين من العامة والخاصة.
النقطة الثانية: المحتملات (الثبوتية) لدلالة الآية على موضوع حكم القصر، فهل هو الضرب في الأرض، أم هو الخوف، أم هو المجموع منهما، أم هو كل واحد منهما مستقلاً؟
النقطة الثالثة: توجيه ارتباط الآية بصلاة المسافر العادي غير الخائف.
الكلمات المفتاحية:
آية التقصير، الصلاة، القصر، صلاة المسافر، الضرب في الأرض.
النقطة الأولى: مباحث تمهيدية
المطلب الأول: التعريف بمفردات الآية
في كتاب العين: >الضَّرْب يقع على جميع الأعمال، ضَرْب في التجارة، وفي الأرض، وفي سبيل الله…<[1].
وفي المقاييس: >الضاد والراء والباء أصل واحد، ثم يستعار ويحمل عليه، من ذلك ضَربت ضرباً، إذا أوقعت بغيرك ضرباً. ويستعار منه ويشبَّه به الضَّرب في الأرض تجارةً وغيرها من السّفر. قال اللّٰه تعالى: {وإذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض}<[2].
فالمستفاد من كلمات اللغويين أن الضرب هو السير في الأرض، للتجارة وطلب الرزق، أو للجهاد في سبيل الله، أو لغير ذلك من الأغراض، فالضرب >يقع على جميع الأعمال<.
فالآية الكريمة {وإذٰا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} تشير إلى السفر، ولذا استشهد ابن فارس بالآية. وسيأتي ما يذكره الطبرسي من أنّ الضرب في الأرض معناه السير فيها وهو يعني السفر[3].
في المقاييس: >القاف والصاد والراء أصلانِ صحيحان، أحدهما يدلُّ على ألا يبلُغَ الشّيءُ مدَاه ونهايتَه، والآخر على الحَبْس. والأصلان متقاربان. فالأوّل القِصَر: خلافُ الطُّول. يقول: هو قَصيرٌ بيِّن القِصَر. ويقال: قصَّرتُ الثَّوبَ والحبلَ تَقصيراً.
والقَصْر: قَصْر الصّلاة، وهو ألا يُتِم لأجل السّفَر. قال اللّٰه تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}<[4].
في المقاييس: >الجيم والنون والحاءِ أصلٌ واحدٌ يدلُّ على المَيْل والعُدْوان. ويقال جنح إلى كذا، أي مَالَ إليه… والجُنَاح: الإثم، سمِّي بذلك لمَيْلِه عن طريق الحقِّ. وهذا هو الأصل ثمَّ يشتقّ منه<[5].
والبحث في دلالة الآية على موضوع القصر، لا يرتبط بكيفية القصر ولا دلالة الجناح، لأنه بحث عن الموضوع، مع قطع النظر كيفية القصر ونوع الحكم.
في لسان العرب: >والفِتْنةُ: ما يقع بين الناس من القتال. والفِتْنةُ: القتل، ومنه قوله تعالى: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}<[6].
وهذا المعنى اللغوي هو المراد في الآية، فقد كان المسلمون عرضة للحملة عليهم من أعدائهم من مشركي قريش، كما سيتضح في المطلبين التاليين.
يبدو من مراجعة المصادر أن آية التقصير في الصلاة قد نزلت في إحدى غزوات النبي’ أو في إحدى أسفاره من المدينة باتجاه مكة.
ولكن هناك رواية يظهر منها أن الآية لها مقطعان قد نزلا في مرحلتين متعاقبتين، فالأول شُرع فيه قصر الصلاة لمن يضرب في الأرض، أي المسافر العادي، والثاني شُرع فيه القصر مع كيفية خاصة لصلاة الجماعة بالشكل الذي يحفظون فيه أنفسهم عند مواجهة العدو.
وفيما يلي بعض الروايات التي يظهر منها هذان المعنيان:
وهو الذي نقلته أكثر المصادر من الفريقين، وقد جاء في الروايات ذكر اسم الموقع الذي كانوا فيه ونزلت فيه آية التقصير:
>وفي الآية دلالة على نبوة النبي’[7]. وذلك أن الآية نزلت والنبي’ بعُسْفان[8] والمشركين بضَجَنان[9]، فتواقفوا فصلى النبي’ بأصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع، والسجود فهمّ بهم المشركون أن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: لهم صلاة أخرى أحب إليهم من هذه، يعنون العصر، فأنزل اللَّه عليه الآية، فصلى بهم العصر صلاة الخوف<[10].
>كنا مع رسول الله’ بعُسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد. قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون: كانوا على حال لو أردنا لأصبنا غرة، لأصبنا غفلة. فأنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فأخذ الناس السلاح، وصفوا خلف رسول الله’ مستقبلي القبلة والمشركون مستقبلهم…< [12].
وفي أسباب النزول للواحدي نقل ما يقرب من النص الذي رواه الطبري[13].
والخلاصة في المعنى الأول:
من مجموع هذه الروايات وغيرها يظهر أن سبب نزول آية التقصير والآية التي تلتها التي بينت كيفية القصر، هو ما تعرض له النبي’ والمسلمون أثناء سفرهم إلى مكة من خوف القتل بحملة أعدائهم المشركين عليهم.
>وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال: قال رجل: يا رسول الله، إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين؟ فأمره أن يصلي ركعتين<[16].
والخلاصة في المعنى الثاني:
أنّ لآية التقصير مقطعين. الأول نزل في بيان حال بعض المسلمين، وربما كانوا من التجار الذين سألوا عن حكم صلاتهم في عامة أسفارهم، ولم يرد فيه قيد الخوف، بل القصر مترتب على السفر.
وأما قيد الخوف في القصر فقد نزل وهم في طريق مكة، وقد واجهوا الكافرين الذين أرادوا الحملة والغدر، فأمروا أن يؤدّوا صلاتهم قصراً خلف النبي’.
وهذا المعنى لو ثبت فإنه يتناسب مع القول بدلالة آية التقصير على القصر في صلاة المسافر، بل يتعين حينئذ بوضوح.
المطلب الثالث: كلمات المفسرين حول الآية
من المناسب نقل عبارات المفسرين من الفريقين حول آية التقصير:
القسم الأول: في تفاسير الإمامية:
فالشيخ الطوسي يرى أن ظاهر الآية الأولي هو أن القصر مترتب على السفر والخوف، فلو لم يكن هناك خوف فلا يجوز التقصير، ولكن هذا الظهور لا يؤخذ به لعدم الخلاف في أنه لا يشترط الخوف في قصر الصلاة في السفر.
(أحدها) إن معناه أن تقصروا من عدد الصلاة فتصلوا الرباعيات ركعتين، عن مجاهد وجماعة من المفسرين، وهو قول أكثر الفقهاء، وهو مذهب أهل البيت ^. وقيل: تقصر صلاة الخائف من صلاة المسافر، وهما قصران: قصر الأمن من أربع إلى ركعتين، وقصر الخوف من ركعتين إلى ركعة واحدة، عن جابر ومجاهد، وقد رواه أيضاً أصحابنا.
(وثانيها) إن معناه القصر من حدود الصلاة، عن ابن عباس وطاووس، وهو الذي رواه أصحابنا في صلاة شدة الخوف، وإنها تصلى إيماء والسجود أخفض من الركوع، فإن لم يقدر على ذلك فالتسبيح المخصوص كاف عن كل ركعة<[18].
ويظهر منه أن القول الأول هو القصر في السفر العادي، وهو قول أكثر الفقهاء، وذلك بمقتضى المقابلة مع القول الآخر الذي عبر عنه بـ (قيل) وهو قصر الصلاة إلى ركعة واحدة في حالة الخوف، وكذلك بمقتضى المقابلة مع القول الثاني الذي حمل القصر على قصر أفعال الصلاة التي تكون في حالة الخوف الشديد الذي لا يمكن معها الإتيان بالركوع والسجود، فيكتفى بالإيماء، بل قد يُكتفى بالتكبير والتسبيح والتهليل، كما ورد في بعض النصوص[19].
فالعلاّمة يبيّن لنا: أن قيد الخوف المذكور في الآية لا يمنع من أن يكون موضوع وجوب القصر يترتب أيضاً على تحقق عنوان السفر وإن لم يحصل الخوف. وذلك بأن يكون تشريع القصر أولاً قد وقع في سفر المسلمين الذي حصل لهم الخوف فيه من أعدائهم الذين يتربصون بهم، ثم توسع التشريع ليشمل السفر الآمن الذي لا خوف فيه.
القسم الثاني: في تفاسير العامة:
وقيل: معناه لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقل عددها في حال ضربكم في الأرض، أشار إلى واحدة في قول آخرين.
وقال آخرون: معنى ذلك لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم وفتنتهم إياهم فيما حملهم عليهم وهم فيها ساجدون، حتى يقتلوهم أو يأسروهم<[21].
ويستفاد من كلامه أن القصر في السفر هو من محتملات الآية، وأن القول الأول في معنى الآية هو القصر في الصلوات الرباعية إلى اثنتين في حال السير والسفر. وكلامه قريب مما جاء في تفسير مجمع البيان.
وقد نقل عن يعلى بن أمية أنه سأل عمر عن علة القصر في أسفارهم مع الأمن، مع أن الآية ذكرت الخوف فأجابه: عجبتُ مما عجبتَ منه حتى سألت النبي’ عن ذلك، فقال: >صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقتَه<[22]. وقد نقل هذا النصّ في الدر المنثور عن مصادر كثيرة[23].
والخلاصة:
إن المفسرين من الفريقين قد ذكروا أنه وقع الخلاف في تفسير آية التقصير في الصلاة، وقد تعددت الأقوال في معنى القصر، وفي حكمه من العزيمة والرخصة. كما أن شأن نزول الآية لا يحلّ المشكلة الواقعة في بيان معنى الآية إذ يمكن أن يؤوّل بحسب الأقوال.
النقطة الثانية: الاحتمالات الثبوتية في دلالة الآية
يقتضي البحث أن تُطرح المحتملات الثبوتية في دلالة الآية على موضوع حكم القصر[26] ثم يُطرح الوجه في دلالة الآية على صلاة المسافر العادي، والذي ستتناوله النقطة الثالثة. فموضوع الحكم بالقصر:
هل هو مجموع العنوانين أي الضرب في الأرض والخوف؟
أم الموضوع هو عنوان الضرب في الأرض، فمتى ما تحقق ثبت حكم القصر؟
أم الموضوع هو خصوص عنوان الخوف؟
أم هو أحد العنوانين مستقلاً، أي يكفي تحقق أحدهما لثبوت القصر؟
فهذه احتمالات أربعة:
الاحتمال الأول: أن يكون موضوع القصر هو كل من الضرب في الأرض (وهو السفر) والخوف، أي بمجموعهما معاً يتحقق موضوع القصر.
وهذا الاحتمال هو الذي يكون ظاهراً من الآية في حدّ نفسها، لأن الأصل في القيود الواردة في الكلام أن تكون قيوداً احترازية ويكون لها موضوعية، والخروج عن مقتضى هذا الأصل العقلائي الممضى يحتاج إلى دليل[27].
ويشير إلى هذا الاحتمال، ما ورد عن أبي عبدالله × في قول الله عزّ وجلّ: {وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض…}؟ فقال: >هذا تقصير ثانٍ، وهو أن يردّ الرجل الركعتين إلى ركعة<[28].
فظاهر الرواية أن هذا التقصير الذي ذكرته الآية إنما هو مترتب على الضرب في الأرض والخوف معاً، ولذا كان هذا تقصيراً ثانياً، إذ التقصير في السفر الذي لا خوف فيه هو أن تردّ الرباعية فيه إلى ركعتين.
وورد هذا المعنى صريحاً في رواية: >فرض الله على المقيم أربع ركعات، وفرض على المسافر ركعتين تمام، وفرض على الخائف ركعة، وهو قول الله عزّ وجلّ: {لا جُناح عليكم أن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ…}…<[29].
وروى العامة عن عائشة أنها كانت تقول: أتموا صلاتكم في السفر. فقالوا: إن رسول الله كان يقصر؟
فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف وهل أنتم تخافون؟[30].
فالتعبير: >وكان يخاف< فيه دلالة على أن حكم القصر إنما يترتب على المجموع من السفر والخوف معاً، فلا يكفي السفر وحده كما ذكر السائل.
الاحتمال الثاني: أن يكون الضرب في الأرض هو الموضوع لحكم القصر، ويكون الخوف المذكور في الآية قيداً غالبياً لا موضوعية له، كما لو كان الضارب في الأرض يتعرض غالباً للمخاطر والمهالك فيكون خائفاً.
وهذا الاحتمال يتناسب مع الظروف السائدة في عصر نزول هذه الآية، فقد كان المسلمون يتعرضون للخوف في غالب أسفارهم، وذلك بسبب عداوة المشركين وحلفائهم وتربصهم بتحركات المسلمين.
وبحسب هذا الاحتمال يكون المناط في تحقق موضوع القصر في الصلاة هو السفر، سواء أكان المكلف خائفاً أم لم يكن خائفاً. ولابد من دليل يوجب رفع اليد عن الاحترازية والموضوعية في قيد الخوف الذي ذكرته الآية.
ويدل على هذا الاحتمال ما ورد عن زرارة ومحمّد بن مسلم، أنّهما قالا: قلنا لأبي جعفر×: ما تقول في الصلاة في السفر، كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: >إنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في الحضر<[31]…
فاستدلّ الإمام× بالآية على وجوب التقصير في السفر، ولم يذكر الخوف، فيظهر منه أن السفر وحده عنوان مستقل يحقق موضوع حكم القصر في الصلاة[32].
والروايات في هذا المعنى متواترة، وهو من الضروريات عند الإمامية، بل هو مما لا خلاف في أصل جوازه بين جميع المسلمين.
الاحتمال الثالث: أن يكون الخوف هو الموضوع لحكم القصر، ويكون ذكر الضرب في الأرض من باب أنه قيد غالبي للخوف، لأن خوف الوقوع في المخاطر والتعرض للمهالك أكثر ما يكون حال الضرب في الأرض والابتعاد عن الأهل والأوطان.
وبحسب هذا الاحتمال يكون المناط في تحقق موضوع القصر في الصلاة هو حصول الخوف، سواء أكان المكلف ضارباً في الأرض أم كان في وطنه.
وقد استشهد الصادق× بقوله تعالى:{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} بعد أن وصف كيفية صلاة الخوف التي صلاها النبي’ وقال: >فهذه صلاة الخوف التي أمر الله بها نبيّه’<[33].
والمستفاد من هذا النص أن هذه الكيفية من الصلاة هي >صلاة الخوف< ومع الاستشهاد بهذه الآية التي تلت آية التقصير، قد يقال إن المراد من آية التقصير أن موضوع القصر للصلاة هو الخوف، وإن ذكر الضرب في الأرض إنما هو قيد غالبي لا موضوعية له، أو يقال إنه مورد نزول الآية.
الاحتمال الرابع: أن يكون كل واحد من القيدين ـ الضرب في الأرض والخوف ـ عنواناً مستقلاً في تحقق موضوع القصر في الصلاة.
فالضرب في الأرض عنوان مستقل متى تحقق يتحقق موضوع القصر، وكذا الخوف. ومما يدل على هذا الاحتمال ما ورد عن العامة في شأن نزول الآية:
سأل قوم من التجار [بني النجار] رسول الله’ فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وإذا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ}. ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بحول، غزا النبي’ فصلى الظهر… فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين: {إنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ…} فنزلت صلاة الخوف[34].
وأما رواية زُرارة – عن أبي جعفر الباقر× قال: قلت له: صلاة الخوف وصلاة السفر تقصران جميعاً؟ قال: >نعم، وصلاة الخوف أحقّ أن تقصّر من صلاة السفر لأنّ فيها خوفاً<[35] – فهي ظاهرة، بل صريحة في أن كل واحد من عنواني السفر والخوف موضوعان مستقلان للقصر، فيكفي لتحقق حكم القصر إما وقوع السفر أو حصول الخوف.
والخلاصة:
أن الاحتمالات الثبوتية للآية أربعة، والظاهر الأولي من الآية هو الاحتمال الأول، ولكن لا مانع من أن يكون المراد من الآية أحد الاحتمالات الأخرى إذا ما قام الدليل على إرادته. وهذا الدليل الذي يعيّن المعنى المراد في الآية لا يكون معارضاً للكتاب الكريم، بل هو مفسر ومبيّن للمراد.
ولذا ورد في رواية زرارة ومحمد بن مسلم قالا: قلنا لأبي جعفر×: رجل صلّى في السفر أربعاً، أيعيد أم لا؟ قال: >إن كان قُرئت عليه آية التقصير وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، وإن لم يكن قُرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه<[36].
فالمستفاد من هذا النص: أن آية التقصير بحاجة إلى بيان وتفسير، ولذا عُلق الحكم بوجوب الإعادة على سماع الآية وتفسيرها، فمن لم تقرأ عليه الآية، أو قُرأت عليه ولم تُفسّر له، فهو معذور لا إعادة عليه.
النقطة الثالثة: توجيه دلالة الآية على صلاة المسافر
قلنا: إن الظاهر الأولي للآية هو أن موضوع القصر هو مجموع السفر والخوف، لأصالة الاحترازية والموضوعية في القيود الواردة في الكلام، وإن رفع اليد عن هذا الأصل بحاجة إلى دليل.
وعليه تكون صحة الاستدلال بالآية على القصر في صلاة المسافر، متوقّفة على الدليل الذي ينفي الاحترازية في قيد الخوف الوارد في الآية.
ومما يدل على نفي الاحترازية، النصوص التي استشهدت بالآية في إثبات حكم القصر للمسافر، مثل روايتي زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمتين، وغيرهما[37].
ويؤيده استشهاد بعض الفقهاء بالآية، وقد تقدّمت عبارة الشيخ الطوسي في التبيان إذ قال: >ولا خلاف اليوم أن الخوف ليس بشرط، لأن السفر المخصوص بانفراده سبب للتقصير<[38].
وعلى ضوء ما تقدم من البحث لا يبعد أن يُدّعى أن موضوع حكم القصر في الآية هو السفر العادي، ويمكن أن يُوجّه ذكر قيد الخوف بوجوه:
الوجه الأول: إن ذكر القيد إنما هو من باب أنه قيد غالبي، إذ كان المسلمون في تلك الأزمنة يحصل لهم الخوف في عامة أسفارهم بسبب الخوف من أعدائهم.
فهو نظير ما يذكر في الفقه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ و… وربَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}[39]. إذ يقال إن وصف ربائب الزوجة بأنهن في حجر الزوج من باب أنه الغالب في سلوك الأزواج خارجاً، فلا يدور حكم تحريم الزواج بربيبة الزوجة مدار هذا الوصف الغالب[40].
الوجه الثاني: أن يقال إن ذكر القيد من جهة أن المورد الذي جاءت به الآية والذي شرع فيه القصر، كان في ظرف الخوف، بسبب تعرض المشركين لهم في طريق سفرهم باتجاه مكة، فلم تكن الآية بصدد بيان تحديد الموضوع والحكم، بل هي بصدد بيان أصل الموضوع والحكم إجمالاً.
وأما تفصيل موضوع القصر، وأنه هو السفر منفرداً أو مع الخوف؟ والحكم هل هو الوجوب أو الرخصة؟ فبيانه موكول إلى النبي’.
ويشير إلى هذا الوجه كلام العلامة الطباطبائي في >أن بدء تشريع القصر في الصلاة إنما كان عند خوف الفتنة، ولا ينافي ذلك أن يعم التشريع ثانياً جميع صور السفر الشرعي<[41].
فالكتاب ذكر أصل الحكم في الصورة التي كانت مورداً لنزول الآية، وهو لا يتنافى مع بيان السنة لشمول الحكم لبقية الصور.
الوجه الثالث: أن يُتمسك بما تقدّم في تفسير جامع البيان للطبري مما ورد في شأن نزول الآية، والذي يُستفاد منه أن هذه الآية عبارة عن مقطعين قد نزلا في ظرفين مختلفين:
(المقطع الأول) وهو ما نزل في تشريع القصر في السفر، وهو الذي سأل عنه قوم من التجار، ولم يكن في المقطع سوى قيد الضرب في الأرض.
(والمقطع الثاني) هو الذي نزل بعد حول من نزول المقطع الأول، وذلك في الحادثة التي تعرض المسلمون فيها لخطر القتل من المشركين وهم في طريق مكة، وهو الذي اشتمل على قيد الخوف.
الوجه الرابع: أن يقال إن النصوص التي دلت على أن السفر مطلقاً ـ أي حصل معه الخوف أو لم يحصل ـ يحقق موضوع القصر في الصلاة، هي بمثابة دليل حاكم يوسع من موضوع حكم القصر، من باب التوسعة على المكلفين.
فهي منة وفضل من الله تعالى لعباده وهدية، كما يظهر مما ورد عن الإمام الصادق عن آبائه عن رسول الله’ قال: >إنّ الله أهدى إليّ وإلى أمّتي هديّة لم يهدها إلى أحدٍ من الأمم، كرامة من الله لنا، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: الإفطار في السفر، والتقصير في الصلاة، فمَن لم يفعل ذلك فقد ردّ على الله عزّ وجلّ هديّته<[42].
النتيجة:
بعد عرض هذه الوجوه، والتأمل في الروايات التي تحدثت عن شأن النزول، والروايات التي ذكرت آية التقصير، نستنتج أن الآية يمكن أن تدلّ على أن موضوع حكم القصر هو السفر.
وعليه لا موجب للتنزل والقول إن الاستدلال بآية التقصير لإثبات وجوب القصر في صلاة المسافر هو من البواطن[43] التي اختصّ بها المعصومون^، لأنه إنما يُصار إليه إذا كان المعنى خفياً تماماً، وليس له علاقة بالألفاظ إلا بالإشارة والرموز، والمقام ليس كذلك.
يظهر من خلال الروايات الكثيرة التي نقلها الفريقان في شأن نزول آية التقصير، أنّ الآية نزلت أثناء سفر النبي’ مع المسلمين إلى مكة، وذلك في إحدى منازل الطريق إلى مكة، وقد كانوا عرضة لمباغتة مشركي قريش الذين خرجوا لصدّ المسلمين والإغارة عليهم.
وتبيّن أنّ هناك رواية بأن نزول الآية كان على مرحلتين، الأولى لتشريع حكم القصر في صلاة المسافر، والأخرى لتشريع صلاة الخوف من العدو وكيفيتها.
وقد ظهر أنّ دلالة آية التقصير على صلاة المسافر فيها شيء من الخفاء، فهي في حدّ نفسها لا تدلّ على حكم صلاة المسافر غير الخائف، لذا لا بد لها من تفسير وتوجيه، وقد دلّ على هذا المعنى رواية صحيحة.
واتّضح أنّ أحد الاحتمالات الثبوتية في الآية هو بيان حكم صلاة المسافر، وهذا الاحتمال وإن لم يكن هو الظاهر الأولي، لكن يجب الأخذ به بعد بيان المعصوم÷ إذ حَمَلَ الآيةَ على هذا الاحتمال.
وكذلك اتّضح أنّ الآية إنما تكون أجنبية غير مرتبطة بصلاة المسافر، إذا لم يكن هناك أي مجال واحتمال لهذه الدلالة، والآية ليست كذلك، لذا لا تصل النوبة للقول بأن دلالة الآية على صلاة المسافر من البواطن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، نشر هجرت، قم، ط2، 1410ق، ج7 ص30 (ض ر ب).
[2] ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، دفتر تبليغات إسلامي، قم، ط1، 1404ق، ج3، ص397و398.
[3] في المطلب الثالث.
[4] ابن فارس، أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص96.
[5] المصدر السابق ج1 ص 484.
[6] ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب، دار الفكر- دار صادر، بيروت، ط3 1414ق، ج13 ص319.
[7] تم استخدام هذا الرمز في المقالة للسهولة ولأجل أن تكون على نسق واحد، وقد يقع الاختلاف مع المصدر، لذا اقتضى التنويه.
[8] >قال أبو منصور: عسفان منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة، وقال غيره: عسفان بين المسجدين وهي من مكة على مرحلتين…<. الحموي، ياقوت بن عبد الله، معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط1979، ج4 ص121و122.
[9] ضَجَنَانُ: >قال أبو منصور: لم أسمع فيه شيئاً مستعملاً غير جبل بناحية تهامة يقال له ضجنان، ولست أدري ممّ أخذ، ورواه ابن دريد بسكون الجيم، وقيل: ضجنان جبيل على بريد من مكّة…<. الحموي، ياقوت بن عبد الله، معجم البلدان، ج3، ص453.
[10] الطوسي، محمد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط1، ج3 ص311.
[11] القمي، علي بن إبراهيم، تفسير القمي، دار الكتاب، قم، ط3، 1363ش، ج1، ص150.
[12] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1412ق، ج5 ص156.
[13] الواحدي، علي بن أحمد، أسباب نزول القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411ق، ص182.
[14] إسماعيل بن عمر، تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1419ق، ج2، ص354.
[15] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان، ج5، ص155.
[16] السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور، مكتبة المرعشي النجفي، قم، ط1، 1404ق، ج2، ص209 و210.
[17] الطوسي، محمد بن حسن، التبيان في تفسير القرآن، ج3، ص307.
[18] الطبرسي، فضل بن حسن، مجمع البيان، نشر ناصر خسرو، طهران، ط3، 1372ش، ج3، ص153.
[19] مثل ما ورد عن الصادق× في صلاة الزحف قال: >تكبير وتهليل، يقول الله عزّ وجلّ: (فإنْ خِفْتُم فرجالاً أو رُكْبَانًا)<. وعنه×: >فات الناس مع علي× يوم صفّين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فأمرهم فكبّروا وهلّلوا وسبّحوا، رجالاً وركباناً<. الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، مؤسسة آل البيت^ قم المقدسة. ج8 ص443-444 ح1 و ح5. وهذه الروايات قد ذكرها الحر العاملي ضمن باب >كيفيّة صلاة المطاردة والمسايفة<.
[20] الطباطبائي، محمد حسين، الميزان، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ط2، 1390ق، ج5، ص61.
[21] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان، ج5، ص154.
[22] المصدر السابق.
[23] السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الدر المنثور، ج2 ص209. قال: >أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن الجارود وابن خزيمة والطحاوي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن حبان، عن يعلى بن أمية…..< وساق الحديث.
[24] الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي، بيروت، ط3، 1407ق، ج1، ص558و559.
[25] ابنعادل، عمر بن علي، اللباب في علوم الكتاب، دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون، ط1، 1419ق، ج6، ص602و604.
[26] وأما حكم القصر، فالآية بحاجة إلى توجيه في دلالتها على وجوب القصر، ولكنه بحث آخر، وهكذا البحث عن كيفية القصر في الصلاة هو بحث ثالث.
[27] وقد تقدم في النقطة الأولى ما ذكره الشيخ الطوسي من أن ظاهر الآية الأولي >يقتضي أن التقصير لا يجوز إلا إذا خاف المسافر<.
[28] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، مؤسسة آل البيت^ قم المقدسة. ج8 ص433-434 ح2 و ح3. وقريب منه ما رواه عن الكليني بسند صحيح.
[29] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج8 ص434 ح4. وقد يقال إن مثل هذه الروايات لابد من تأويلها أو ردّها أو حملها على التقية، لأن الفقهاء لا يلتزمون بأن الصلاة الرباعية تصير ركعة واحدة.
[30] القرطبي، محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، نشر ناصر خسرو، طهران، ط1، ج5، ص362.
[31] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج8 ص517 – 518 ح2. والسند صحيح وهي مروية في الفقيه وتفسير العياشي.
[32] وهذه الرواية قد وجهت دلالة الآية على حكم القصر أيضاً وهو الوجوب. فراجع.
[33] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج8 ص435 ح1. وفي الكافي ليس فيها: (وقد قال الله لنبيه) إلى آخر الرواية. راجع: الكافي للشيخ الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران، ط4، 1407ق، ج3، ص456، ح2.
[34] الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان، ج5، ص155. راجع: المطلب الثاني من النقطة الأولى.
[35] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج8 ص433 ح1.
[36] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج8 ص507-508 ح4. وهو مروي في الفقيه والتهذيب. والسند صحيح.
[37] راجع الاحتمال الثبوتي الثاني. ويدل على أن السفر هو تمام الموضوع للقصر، روايات كثيرة من أبواب صلاة المسافر، مثل: (الباب 17: من أتمّ في السفر عامداً وجب عليه الإِعادة…).
[38] في النقطة الأولى، المطلب الثالث، القسم الأول.
[39] النساء 23.
[40] انظر: الطبرسي، فضل بن حسن، المؤتلف من المختلف، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، ط1، 1410ق، ج2 ص131.
[41] في النقطة الأولى، المطلب الثالث، القسم الأول.
[42] الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج8 ص520 ح11. والرواية منقولة عن الخصال. والسند معتبر. وقد تقدّم ما جاء في روايات العامة من أن القصر >صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقتَه<.
[43] قال الشيخ الإيرواني عن تطبيق آية التقصير على صلاة المسافر في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم: >ينبغي عدّ هذا من البواطن التي لا تصل إليه أفهامنا<. وقد ذهب إلى أن الآية ناظرة إلى صلاة الخوف لقرينتين: (الأولى) وجود قيد الخوف في الآية، (والثانية) بيان كيفية أداء الصلاة حال الخوف في الآية اللاحقة. دروس تمهيدية في تفسير آيات الأحكام، دار الفقه، قم، ط3، 1428ق، ج1 ص138.
إرسال تعليقاتكم واقتراحاتكم