بقلم السيد عباس الصنديد
العنوان: جواز اليمين بغير الله
ملخص البحث
يتعرض البحث إلى اليمين بغير الله والتي تقع لتأكيد إخبار الحالف بشرط أ يكون صادقا، والبحث فيها من جهة حكمها التكليفي ومن جهة حكمها الوضعي في بحث القضاء لا في غيره من الأحكام الوضعية كالكفارة، أي يبحث عن نفوذها في القضاء وعدمه، فيعرض البحث دليل الاستصحاب أولاً، وماذا يستفاد منه من جهة تكليفية ووضعية، وهل يجري في الشبهة الحكمية أو لا.
ثم يعرض إلى أقوال العلماء في المسألة ثم طوائف الأخبار الدالة على جواز التكليفي والجواز الوضعي وما يعارضها، فتكون النتيجة هي تعارضها وبعدها ننظر مقتضى قواعد التعارض.
مقدمة
لما وصلنا في الدرس إلى هذا البحث وراجعت كلمات الأعلام في المسألة ومقارنتها بأدلتها من روايات أهل البيت (ع) وجدت اضطرابًا ووتشويشًا، فقد كان ظاهر الروايات ناطقًا بحكمين: تكليفي ووضعي، بينما لم يفصّل الأعلام بهذه الطريقة، وبعضهم فصّل المسألة إلى هذين القسمين، إلا أنه لم يفرز الروايات الدالة على الحكم الوضعي من التكليفي، فأحببت أن أرتب كلمات الأعلام على أساس الأدلة الروائية، ولا جديد في المقام فكل ما لدينا هو من فاضل موائدهم.
مبادئ تصورية
تحرير محل النزاع
ليس الكلام عن يمين اللغو فهي لا تسمى يمينًا، إلا للفظها أما من حيث المعنى فلم يُقصد بها الحلف جدًا، وقد رخص الله تعالى فيها (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ)[1] وفُسّر[2] تعقيد الأيمان بإضمار الشيء في النفس فيحلف عليه، فتكون هذه اليمين مقصودة جدًا، وأما اللغو فهو الحلف بغير قصد، والمؤاخذة ثابتة على خصوص المعقودة جدًا لا اللغوية، وليس الكلام عن يمين المناشدة فهي أيضًا ليست يمينًا ولا أثر لها[3] فلا نبحثها هنا، فالبحث مختص بيمين التأكيد.
وليس الكلام أيضًا عن يمين التأكيد المؤكدة لإنشاء المتكلم، بل الكلام مختص باليمين المؤكدة للخبر، وهي إما أن تكون حلفًا بالله تعالى أو بغيره، وعلى الاثنين هي إما صادقة أو كاذبة، ولا اشكال عند الفقهاء في عدم حرمة الحلف بالله صادقًا وإن كان مكروهًا لقوله تعالى (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ)[4] والنهي فيها بإطلاقه يشمل اليمين الصادقة، وهو محمول على الكراهة إما بقرينة بعض الأخبار المفسرة للآية[5] المفيدة للكراهة أو بالجمع بين الآية وبين ما دلّ على جواز اليمين بالله[6]، كما أنه لا اشكال في حرمة الحلف بالله تعالى كاذبًا، فهي اليمين الغموس[7] وهي من الكبائر، وكذلك لا إشكال في حرمة اليمين بغير الله إن كانت كاذبة لأنها كذب.
وإنما وقع الكلام في جواز الحلف بغير الله صادقًا كالحلف بالنبي والكعبة والتوراة من حيث الحكم التكليفي فهل يجوز ذلك أم لا؟ ومن حيث الحكم الوضعي في خصوص القضاء (بحسب محل بحثنا) فهل يكفي في اليمين أن تكون بغير الله أم لا؟ وهل يشمل ذلك المسلم وغيره أم لا؟ فالكلام إذًا في هاتين الجهتين.
تأسيس الأصل في المسألة
الأصل العملي
أما من ناحية الحكم التكليفي فإن الشك في حرمة الحلف بغير الله شك في التكليف وهو مجرى للبراءة، وأما من ناحية الحكم الوضعي فإن الشك هنا في نفوذ القضاء بعد الحلف بغير الله ويجري فيه استصحاب عدم النفوذ.
وهل هذا استصحاب في شبهة حكمية أو موضوعية ؟
الجواب: استصحاب في شبهة حكمية، فإن هذا الشك وإن كان ظاهره الشك في أن هذا الكلام هو يمين شرعية أو لا، ولكن حقيقته الشك في حكمها؛ إذ إن مرجعه إلى شك القاضي في الجعل أي أنه بعد هذه اليمين يشك: هل أن الله جعل عليه وجوب الحكم للحالف أم لا ؟ وحينئذٍ يجري فيه استصحاب عدم الجعل، فلا تكون هذه اليمين طريقًا لنفوذ القضاء.
قد يقال: على هذا تصبح المسألة مبنائية، فمن لا يرى جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كالسيد الخوئي تبعًا للمحقق النراقي لا يمكنه التمسك بهذا الأصل لنفي نفوذ القضاء بهذه اليمين.
فنقول: أولًا: لو فرضنا عدم صحة التمسك بالاستصحاب هنا لما ذُكر فبالإمكان التمسك بالبراءة لنفي الجعل المشكوك، ونحن لم نذكر قبل قليل دليل البراءة مع الاستصحاب؛ لأنه في حال اجتماعهما على مشكوك واحد يقول الأصوليون بأن دليل الاستصحاب حاكم على دليل البراءة ومقدّم عليه حتى لو اتفقا في النتيجة، والتفصيل في محله[8].
ثانيًا: حتى على المبنى المذكور فإن الاستصحاب جارٍ في المقام، لأن النكتة في عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية أنه استصحاب لعدم الجعل وفي قباله استصحاب للمجعول فيتعارض الاستصحابان ويتساقطان، وهذه النكتة منتفية هنا فلا يوجد مجعول ثابت حتى يُستصحب أي لا يوجد عندنا يقين سابق بوجوب الحكم ونشك في ارتفاعه، وحينئذٍ يتم استصحاب عدم الجعل بلا معارض، نعم من يقول بأن أدلة الاستصحاب منصرفة أصلًا عن الشبهات الحكمية[9] لا يسعه التمسك بالاستصحاب في الشبهات الحكمية مطلقًا.
وقد تقول: الأصل من جهة المنكر هو جواز الحلف بغير الله، لأن المنكر هو من يكون معه الأصل، ومقتضى حجية أصله هو حكم الحاكم له بلا تحليف أصلًا، هذا هو مقتضى القاعدة، ولكن قد دلّ الدليل المنفصل على لزوم تحليف المنكر فشككنا في دلالة هذا المقيِّد بين الأقل (مطلق الحلف) والأكثر (الحلف بالله) واذا دار المقيد المنفصل بينهما اقتُصر على الأقل وجرت البراءة عن الأكثر، فتثبت كفاية الحلف بغير الله.
فنقول[10]: المفهوم عرفًا من دليل تحليف المنكر أن الحجة القضائية إما هي اليمين أو –على الأقل- تكون اليمين جزء الحجة، وعليه: القدر المتيقن من هذه الحجة هي المشتملة على يمين بالله، أما اليمين بغيره فيُشك في أنها حجة قضائية أو لا، ومع الشك في نفوذ القضاء بها يُستصحب عدم النفوذ، وبعبارة أخرى: اليمين بالله إما هي الحجة أو جزء الحجة وليست شرطًا خارجًا عنها حتى يُنفى بالاستصحاب أو البراءة عند الشك فيه.
الأصل اللفظي
هل يوجد عموم لفظي ينقح الحكم في المقام ؟
الجواب: أما في الحكم التكليفي فلم أظفر له بعموم، وما يأتي فهي أدلة خاصة كما ستعرف إن شاء الله، وأما في الحكم الوضعي فلم يذكر الأعلام ما يدل على البطلان، واقتصروا على ذكر ما يدل على نفوذ اليمين بغير الله:
الأول[11]: ما دلّ على جواز الصلح وعلى وجوب الوفاء بالشرط يدل على جواز اليمين بغير الله، وتقريبه: لو تصالح المدعي مع المنكر على أن المنكر إن حلف بالتوراة مثلًا لأسقط المدعي حقه، وحلف المنكر فإن الحق يسقط، وكما لو قبل المدعي بإسقاط حقه بشرط أن يحلف المنكر بالعباس (ع) مثلًا، وحلف المنكر سقط الحق، لما دلّ على جواز الصلح بين المسلمين[12] والمؤمنون عند شروطهم[13].
وفيه: أن أدلة الصلح ونحوها ليست في مقام بيان تحليل ما تتعلق به حتى إذا ما تعلقت باليمين بغير الله دلت على جوازه، وبعبارة أخرى: هي ليست في مقام بيان رفع الأحكام الأولية عن موضوعاتها، بقرينة ما في ذيل بعض أخبار الصلح: إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، وعليه: اذا حلف المنكر بغير الله لم يدل الصلح على نفوذ هذا الحلف بل لابد من البحث عن الحكم الأولي للحلف بغير الله ثم يأتي الكلام عن تعلق الصلح به أو لا.
الثاني[14]: ما دل على القضاء بالأيمان كقول الإمام الصادق (ع) في صحيحة بريد بن معاوية: “الحقوق كلها البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في الدم خاصة”[15]، واليمين مطلقة فيها فتدل بإطلاقها على نفوذ الحلف بغير الله.
وفيه: أن الخبر ليس في مقام البيان من جهة متعلق اليمين بل هو في مقام بيان تعداد مواضع البينة واليمين بقرينة الاستثناء.
الثالث[16]: ما دل على التحليف بالله في صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبدالله (ع): فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام: “أَنَّ نَبِيّاً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ شَكَا إِلىٰ رَبِّهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَقْضِي فِيمَا لَمْ أَشْهَدْ وَلَمْ أَرَ ؟ قَالَ: فَأَوْحَى اللّٰهُ- عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِ: أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِكِتَابِي، وَأَضِفْهُمْ إِلَى اسْمِي، فَحَلِّفْهُمْ بِه”ِ[17].
وفيه: أن هذا وإن دل على التحليف بالله إلا أنه لا دلالة فيه على المنع من الحلف بغير الله، والنزاع ليس إلا في الثاني !!
والحاصل أنه لا يوجد عموم لفظي على نفوذ الحلف بغير الله يمكن الرجوع إليه عند تعارض الأخبار.
تحقيق المسألة
أولًا: الأقوال في المسألة
وهناك عبارات أخرى لبعض الأعلام لا تبين الحكمين كعبارة صاحب الجواهر حيث اختار الجواز تكليفًا[24] ولم يظهر لي الحكم الوضعي عنده، وعبارة المحقق في الشرائع إذ حملها في المسالك على البطلان الوضعي بالخصوص[25].
ثانيًا: أدلة المسألة
أما الأخبار الدالة على الحكم التكليفي فهي على طوائف:
الطائفة الأولى: ما دل على الحرمة:
وهي معتبرة الأسانيد ما عدا الثاني لضعف طريق الصدوق إلى شعيب، وشعيب نفسه مجهول، والثالث لإرساله، والأخبار ظاهرة في الحرمة التكليفية وإن كان في النفس شيء من دلالة الثاني على الحرمة بل يُحتمل في قوله (ص): “ليس من الله في شيء” الدلالة على البطلان، بتقريب أن نسبة الحلف إلى الله دالة على مشروعيته، ونفي النسبة دال على عدم مشروعيته، وعدم المشروعية مساوق للبطلان، وإن لم يدل على البطلان فيدل لا أقل على عدم الحرمة إذ عدم المشروعية أعم من الحرمة، وقد نصّ الشيخ محمد تقي المجلسي على عدم دلالته على الحرمة[31].
وقد حمل المحقق الاشتياني الخبر الأخير على الكراهة بقرينة قوله (ع): لا أرى[32]، ولم يظهر لي وجه الكراهة فإن هذا التعبير من الامام اخبار يراد به النهي، والحرمة أقرب إلى النهي من الكراهة، ويُحتاج في الدلالة على الكراهة إلى قرينة، ومع عدمها ينصرف النهي إلى الحرمة، ولعل وجه الكراهة عنده هو أن نسبة الإمام هذا الكلام إلى نفسه دال على أنه ينزه نفسه عن هذا الحلف، والتنزيه دال على الكراهة، والله العالم.
ولكن هذا التوجيه مناقش صغرى وكبرى:
أما الصغرى (دلالة هذا الكلام على التنزيه): نسبة الحلف إلى غيره لا تناسب أنه ينزه نفسه، فلو كان في مقام تنزيه نفسه لقال مثلًا: لا أحب أن أحلف بغير الله.
وأما الكبرى (التنزيه دال على الكراهة): فمن الواضح أن التنزيه لا يختص بالمكروهات بل يشمل المحرمات، إذ لا ريب في صحة قولنا: فلان نزيه، اذا ترك المحرمات.
ثم اذا حملنا الخبر الأخير على الكراهة لزم الجمع بينه وبين بقية الأخبار بحملها على الكراهة أيضًا، فيكون الحلف بغير الله مكروهًا، ولكن من الصعب حمل الكفر والشرك في الخبر الثاني على الكراهة، ولكن لا مانع من ذلك لأنك عرفت أن سنده (الخبر الثاني) ضعيف ولم ينجبر بعمل المشهور.
الطائفة الثانية: ما دل على الجواز:
والخبر الأول معتبر السند دون الأخيرين فالثاني ضعيف السند والثالث مرسل[37]، وهذه الطائفة ظاهرة في جواز الحلف بغير الله، وقد احتمل الحر العاملي أن جواز الحلف بغير الله مختص بالامام[38]، ولكن يندفع هذا الاحتمال بأن الحالف في الخبر الأول هو الراوي ولو كان فعله محرمًا لنهاه الامام عنه.
ومقتضى الجمع بين الأخبار أن تُحمل هذه على الكراهة جمعًا مع ما دل على الحرمة.
وإضافة إلى هذه الأخبار قد استدل جمع من متأخري المتأخرين على عدم حرمة الحلف بغير الله بسيرة المتشرعة القطعية التي هي قرينة لبية تمنع من حمل الأخبار على الحرمة.
وفيه: أولًا: هذه السيرة إن كانت قطعية فهي سيرة متأخرة عن زمان النص، ولا حجية للسيرة إلا المتصلة بزمان النص، ثم إنه من غير المعلوم كونها قطعية زمن النص بل أسئلة الرواة تكشف عن كونها مسألة مشكوكة عندهم.
ثانيًا: السيرة زمن النص لا تصلح دليلًا اذا ردع عنها المعصوم، وهذه الأخبار كافية في الردع، وليست السيرة (إن وجدت) مستحكمة حتى نحتاج إلى أخبار كثيرة تردع عنها، بل تكفي الأخبار التي بأيدينا للردع، وحينئذٍ لابد من الرجوع إلى الأخبار والنظر في دلالتها.
والحاصل أن الحكم التكليفي في الحلف بغير الله هو الكراهة.
وأما الأخبار الدالة على الحكم الوضعي أي نفوذ اليمين في القضاء فهي على قسمين:
القسم الأول: ما دل على عدم الجواز، وهي طائفتان:
الطائفة الأولى: ما دل على عدم جواز تحليف أحدٍ إلا بالله:
والخبر الأول معتبر السند، والثاني ضعيف بالقاسم بن سليمان وجراح المدائني فلم يوثقا، وأما من حيث الدلالة فقد يقال بأن الخبرين لا يشملان غير المليين المذكورين فيهما، وذلك لأنهم (المليين) القدر المتيقن من الخبرين، والقدر المتيقن في مقام التخاطب مانع من الإطلاق.
وهذا صحيح على مثل مبنى صاحب الكفاية، ولكنه في خصوص الخبر الأول، أما الثاني فظاهر المقطع الثاني منه أنها جملة مستقلة وليست صالحة لمنع اطلاق الجملة الأولى، نعم هناك سياق مشترك بين الجملتين وهي أنهما في مقام ذكر الحكم القضائي لا أكثر.
إن قلت: اذا كانت الجملة الأولى مطلقة فبإطلاقها تشمل المليين فلا وجه لإعادة ذكرهم، وهذا كاشف عن عدم اطلاقها.
قلنا: بل يوجد وجه لتخصيصهم بالذكر وهو التأكيد على الفرد الذي هو محل الشك.
الطائفة الثانية: ما دل على عدم جواز تحليف المليين إلا بالله:
والخبران معتبرا السند.
القسم الثاني: ما دل على الجواز، وهي طائفتان:
الطائفة الأولى: ما دل على تحليف أهل كل دين بما يستحلفون به:
وهو معتبر السند، وإضمار محمد بن مسلم لا يضر كما هو معلوم.
الطائفة الثانية: ما دل على تحليف الكتابيين بالتوراة والكنائس وبيوت النيران:
وفي الخبر الأخير اذا فهمنا “في” بمعنى الباء فهو دال على المطلوب وإلا فلا.
وهذه الأخبار دالة على نفوذ الحلف بغير الله في القضاء، فهي معارضة لما دل على عدم النفوذ إلا بالله، وعليه: فهل التعارض بينها مستقر أم يمكن الجمع بينها ؟
أولًا: لا تعارض بين الأخبار بالنسبة للمسلم إذ إن أخبار عدم الجواز إما تشمل المسلم أو تختص بالمليين، وأخبار الجواز لا اطلاق لها يشمل المسلم، فعلى كل حال لا ينفذ في القضاء يمين المسلم بغير الله، وإنما وقع تعارض الجواز وعدمه في المليين، فالكلام في الأخبار من هذه الجهة.
ثانيا: وجوه الجمع بين الأخبار:
ذكر السيد الخوئي أن النسبة بينها اطلاق وتقييد فإن ما دل على المنع من الحلف بغير الله يشمل حلف المليين بما يستحلفون به في دينهم وغيره، وما دل على جواز تحليفهم دل على تحليفهم بما يعتقدونه، فتُرفع اليد عن المطلق فيكون المنع من الحلف بغير الله مختصًا بما لو حلفوا بما ليس في دينهم[46].
وأُشكل عليه بأنه لا يناسب تعليل صحيحة سليمان بن خالد (استشهاده عليه السلام بالآية: وأن احكم بينهم بما أنزل الله) بل لا يناسب جميع روايات عدم الجواز لأنها ليست مطلقة بل هي ناظرة إلى ما جرت عادتهم على الحلف به، وحملها على خصوص ما ليس من دينهم ليس عرفيًا[47].
ويؤيد عدم صحة تقييدها أن لسان بعضها لسان حصر أي لا يجوز الحلف إلا بالله، وهذا اللسان آبٍ عن التقييد.
وذكر السيد الخوئي وجهًا آخر للجمع وهو أن ما دل على نفوذ الحلف بغير الله نص في النفوذ، وما دل على عدم نفوذه ظاهر في عدم النفوذ، فتُرفع اليد عن الظاهر ويُحمل على الكراهة التكليفية فيُكره للقاضي أن يحلفهم بغير الله[48].
وهذا أيضًا يلاحظ عليه:
وعليه فإن الروايات متعارضة فيما بينها تعارضًا مستقرًا.
ومقتضى التعارض المستقر أن نرى المرجحات:
وفيه: قلنا أن هذه الآيات ناظرة إلى الحكم التكليفي وأنه يجوز لله الحلف بما يشاء وليس لخلقه أن يحلفوا إلا به، وكلامنا عن الحكم الوضعي ففرق بين المقامين، فلا تكون هذه الأخبار مخالفة للكتاب.
أما العامة فلا ينفذ الحلف بغير الله عندهم[50] وحينئذٍ ترجح روايات نفوذ الحلف بغير الله، وطبعًا رجحان تلك الأخبار لا يعني أن روايات عدم نفوذ الحلف بغير الله صدرت تقية، بل ترجيح هذه على تلك تعبدًا، أما لو أحرزنا أن الروايات الموافقة للعامة صدرت تقية لما وصلنا إلى التعارض، بل كانت هذه الطائفة ساقطة عن الحجية منذ البداية.
ولو استقر التعارض بلا مرجح فإن الأخبار تتساقط، وحينئذٍ نذهب للعمومات إن وجدت، وقد تقدم أنه لا يوجد عموم أي لا دليل على نفوذ القضاء بالحلف بغير الله، وحينئذٍ لا مرجع للمسألة إلا الأصل العملي وقد تقدم أنه يدل على عدم نفوذ القضاء بالحلف بغير الله.
المصادر والمراجع
[1] المائدة 89.
[2] مجمع البيان ج3 ص407-408.
[3] مستند الشيعة ج17 ص474.
[4] البقرة 224.
[5] الكافي ج14 ص748.
[6] المصدر نفسه.
[7] سميت غموسًا لأنها تغمس صاحبها في الإثم ويستحق أن يُغمس في النار. المصباح المنير ص453.
[8] انظر مثلا بحوث في علم الأصول ج5 ص72 فما بعد.
[9] كما نُسب للأخباريين وللسيدين الجليلين الشبيري الزنجاني والمددي.
[10] القضاء في الفقه الاسلامي ص689.
[11] جواهر الكلام ج40 ص227.
[12] الكافي ج10 ص368، ج14 ص653، ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص32.
[13] تهذيب الأحكام ج7 ص371.
[14] مباني تكملة المنهاج من موسوعة السيد الخوئي ج41 ص32.
[15] الكافي ج14 ص510.
[16] أسس القضاء والشهادة ص196، القضاء في الفقه الإسلامي ص689.
[17] الكافي ج14 ص658.
[18] تحرير المسائل ج5 ص164.
[19] مستند الشيعة ج17 ص472.
[20] الدروس ج2 ص96، الروضة البهية ج2 ص94.
[21] ملحق العروة الوثقى ص700-703.
[22] المقنعة ص558.
[23] المبسوط ج6 ص191-192، وج8 ص205.
[24] جواهر الكلام ج40 ص228.
[25] مسالك الأفهام ج13 ص473.
[26] الکافي ج14 ص748.
[27] من لا يحضره الفقيه ج4 ص3.
[28] عوالي اللئالي ج1 ص262.
[29] لا أبا لشانئك أي لمبغضك، قال ابن السكيت: وهي كناية عن قولهم لا أبا لك. صحاح الجوهري ج1 ص57.
[30] الكافي ج14 ص748.
[31] روضة المتقين ج9 ص349.
[32] كتاب القضاء ج1 ص440.
[33] الكافي ج2 ص274.
[34] وزاد الحر العاملي عن علي بن الحكم، وهو سهو لأن راوي كتاب مروك هو أحمد بن محمد بن عيسى بلا واسطة عن مروك كما ذُكر في تحقيق الكافي ط دار الحديث.
[35] الكافي ج1 ص459.
[36] الكافي ج1 ص502.
[37] الاشکال في الخبر الثاني في محمد بن زيد الطبري فلم يوثق أو يضعف، ولا شاهد على انجبار سند الخبر بعمل المشهور إذ لم يروه الصدوق، ولم يروه الشيخ إلا في الأمالي وكذا المفيد في الأمالي، ولیس الطبري من المعاریف إذ ليس له إلا روايتان، فلا أدري لماذا عبّر الميرزا التبريزي عن هذا الخبر بالمعتبر !!. انظر أسس القضاء والشهادة ص198.
[38] وسائل الشيعة ج23 ص263 ح10.
[39] الكافي ج14 ص752.
[40] المصدر نفسه ص754.
[41] الكافي ج14 ص753.
[42] المصدر نفسه ص752.
[43] من لا يحضره الفقيه ج3 ص375.
[44] تهذيب الأحكام ج8 ص279.
[45] قرب الاسناد ج1 ص42.
[46] مباني تكملة المنهاج من الموسوعة ج41 ص32.
[47] القضاء في الفقه الإسلامي ص687.
[48] مباني تكملة المنهاج من الموسوعة ج41 ص32.
[49] الشمس 1.
[50] الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت عليهم السلام ج2 ص113.
إرسال تعليقاتكم واقتراحاتكم