حجیة الخبر الواحد في الموضوعات – الشیخ محمدمهدي الكاظمي

بسم الله الرحمن الرحیم

 

 

حجیة الخبر الواحد في الموضوعات

بقلم: سماحة الشیخ محمدمهدي الكاظمي

 

الخلاصة:

قد اختلف الفقهاء في حجیة الخبر الواحد في الموضوعات فذهب المشهور إلی عدم حجیته بینما ذهب الآخرون إلی حجیته في الجملة. والعمدة في الدلیل علی الحجیة هو قیام السیرة العقلائیة علی العمل بإخبار الثقة في الموضوعات. ویؤیدها سیرة المتشرعة مضافا إلی وجود روایات متعددة. وفي المقابل قد یدعی وجود المانع عنها وهو بعض الروایات التي ظاهرها لزوم قیام البینة لإثبات الموضوعات. ولکنها تختص بما إذا کان الموضوع من الأمور الخطیرة المرتبطة بأمر القضاء أو الأعراض والفروج وأما ماعدا ذلک فلا دلیل علیه. فالحق هو قبول قول الثقة في الموضوعات غیر الخطیرة.

 

المقدمة:

تتنجز الأحکام الشرعیة عند ثبوت موضوعاتها. وهناک طرق متعددة لإحراز ثبوت موضوع الحکم الشرعي: منها العلم الوجداني، ومنها إقامة البینة الشرعیة. وقد وقع الکلام في ثبوت موضوع الحکم الشرعي بإخبار الواحد، فهل الخبر الواحد حجة في الموضوعات أم لا؟

لا کلام في أن الخبر الواحد حجة في الموضوعات إذا أوجب الیقین أو الإطمئنان الشخصي حیث إن الیقین حجیته ذاتیة والإطمئنان الشخصي ملحق به. فالکلام هو في حجیة قوله تعبداً وإن لم یفد الإطمئنان الشخصي بل أفاد الإطمئنان النوعي.

وتظهر الثمرة في مسائل کثیرة في الفقه من أبواب الطهارة إلی مسائل الحدود والدیات. وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة وبما أن هناک کثیراً من الموضوعات الفقهیة لا سبیل لإثباتها إلا عن طریق أخبار الآحاد، فلا بد من البحث حول هذه المسألة.

ولا یخفی أن الإخبار (مطلق الإخبار) إما أن یکون إخباراً عن حس وإما یکون عن حدس والمراد من الإخبار الحسي، کل إخبار ینتهي إلی إحدی الحواس الظاهرة، بخلاف الإخبار الحدسي فهو الإخبار المستند إلی إعمال الفکر والرأي[1]. ومحل الکلام هو ما إذا کان الإخبار عن حس وأما إذا کان الإخبار حدسیاً فلا شک في عدم حجیته إلا من باب رجوع الجاهل إلی العالم لا من باب حجیة خبر العدل. وأما إذا شککنا في کون الإخبار حسیاً أو حدسیاً فالأصل هو کون الإخبار حسیاً[2].

ثم إن محل الکلام هو ما إذا یترتب علی الموضوع حکماً شرعیاً وأما إخبار الثقة عن الروایات التفسیریة أو التاریخیة أو العقائدیة التي لا تستتبع عملاً فهي خارجة عن محلّ الکلام، ولابد من إفراد رسالة خاصة بهذا البحث.

الأقوال في المسألة:

المشهور بین الإمامیة هو عدم حجیة أخبار الآحاد في الموضوعات.

وفي المقابل مال بعض الفقهاء إلی حجیته وإن اختلفوا في سعة دائرتها. فاحتمل العلامة الحلي في نهاية الإحكام وجوب التحرّز عن النجاسة مع إخبار العدل الواحد بنجاسة‌ إناء بعينه[3]. وذهب سلار إلی حجیة العدل الواحد في هلال شهر رمضان بالنسبة إلی الصوم[4]. واستقرب العلامة في القواعد الإکتفاء بقول العدل الواحد إذا أخبر بتعریف اللقطة حولاً کاملاً وقال صاحب مفتاح الکرامة في شرحه علی هذه العبارة: «الأقرب، أقرب»[5]، واستقرب جماعة قبول قول العدل الواحد إذا ادعی ملکیة اللقطة من دون أن یصفها بشرط حصول الظن من قوله[6]. ومال صاحب الحدائق إلی ثبوت النجاسة بقول العدل الواحد[7]. وقوّی کاشف الغطاء الإکتفاء بشهادة العدل الواحد ولو أنثی لإثبات النسب[8].

واشترط المحقق الهمداني أن یکون ‌الإخبار عن أمر حسّيّ غير قابل للاشتباه عادة[9] أو أمر حدسيّ يكون ناشئا عن مقدّمات حسّيّة غير قابلة للخطأ، كالإخبار بالملكات المستكشفة من آثارها، كالشجاعة والسخاوة ونحوهما[10]. ونسب إلی المشهور ثبوت عدالة الراوي بإخبار عدل واحد بل ادعي علیه الإجماع[11]. وقد ذکر في المناهل ان جواز الاعتماد في العزل على إخبار ثقة مذهب جماعة من اصحابنا المتأخرين[12].

ومن المعاصرین، ذهب السید الخوئي[13] والشیخ التبریزي[14] إلی حجیة إخبار الثقة الواحد في الموضوعات بقول مطلق.

وکیف کان؛ فیقع الکلام في مقامین:

المقام الأول: هل المقتضي لحجیة الخبر الواحد في الموضوعات تام؟

المقام الثاني: علی فرض تمامیة المقتضي، فهل هناک مانع من ذلک أم لا؟

المقام الأول؛ وجود المقتضي:

قد یقال إن المقتضي لحجیة الخبر الواحد في الموضوعات تام. فهناک عدة أدلة یستظهر منها حجیته:

الأول؛ السیرة العقلائیة:

الدلیل الأول (وهو العمدة) هو التسمک بالسیرة العقلائیة، فیقال لا شک أن سیرة العقلاء هو العمل بقول الثقة مطلقاً في ما یرجع إلی معاشهم ومعادهم وحيث لم يردع عنها في الشريعة المقدسة فتكون حجة ممضاة من قبل الشارع بلا فرق في ذلك بين الموضوعات والأحكام. ولا یخفی أن السیرة العقلائیة علی العمل بخبر الثقة لا العدل فلا مدخلیة لعدالة المخبر في قبول قوله عند العقلاء فالمهم عندهم أن إخباره یورث الإطمئنان النوعي والنسبة بین إخبار الثقة وإخبار العدل، عموم من وجه فقد یکون العدل ثقة وقد یکون الثقة غیر عادل وقد یکون العدل العادل غير ثقة في إخباره لكثرة خطئه في حكايته.

وللمحقق النائیني عبارة نافعة في المقام: «أمّا طريقة العقلاء: فهي عمدة أدلة الباب، بحيث لو فرض أنّه كان سبيل إلى المناقشة في بقية الأدلة فلا سبيل إلى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة والاتكال عليه في محاوراتهم، بل على‏ ذلك يدور رحى نظامهم. ويمكن أن يكون ما ورد من الأخبار المتكفلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها إمضاء لما عليه بناء العقلاء وليست في مقام تأسيس جواز العمل به، لما تقدم من أنّه ليس للشارع في تبليغ أو امره طريق خاص، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري بين الموالي والعبيد العرفية من دون أن يكون له طريق مخترع، وحال الخبر الموثوق به عند الموالي والعبيد حال العلم في جواز الركون إليه والإلزام والالتزام به في مقام المخاصمة والمحاجّة»[15]. فإنه وإن کان بصدد إثبات حجیة الخبر الواحد في الأحکام، ولکن ما ذکره من کیفیة معاملة العقلاء مع إخبار الثقة غیر مختص بالإخبار عن الأحکام.

ومع ذلک، قد أورد علی هذا الإستدلال، أن موثقة مسعدة بن صدقة رادعة عنها[16] وسیجيء الکلام عنها ومدی دلالتها عند التعرض إلی موانع الأخذ بالخبر الواحد.

الدلیل الثاني؛ ثبوت حجیة الخبر الواحد في الموارد المختلفة :

إن هناک روایات متعددة تدل علی أن الشارع اعتبر الخبر الواحد في إثبات الموضوع[17]، وهي علی طوائف:

الأولی: الروایات التي تدل علی جواز التعویل في الوقت علی أذان المؤذن:

منها: صحیحة زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ علیه السلام فِي رَجُلٍ صَلَّى الْغَدَاةَ بِلَيْلٍ غَرَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَمَرُ ونَامَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ صَلَّى بِلَيْلٍ قَالَ يُعِيدُ صَلَاتَهُ.

ومنها: روایة مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ الله علیه السلام أَخَافُ أَنْ نُصَلِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الْمُؤَذِّنِينَ[18].

ومنها: صحیحة الْحَلَبِيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فَقَالَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ؟ قَالَ وكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ صلی الله علیه وآله وسلم وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وكَانَ أَعْمَى يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ويُؤَذِّنُ بِلَالٌ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ فَقَالَ النَّبِيُّ صلی الله علیه وآله وسلم إِذَا سَمِعْتُمْ صَوْتَ بِلَالٍ فَدَعُوا الطَّعَامَ والشَّرَابَ فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ[19].

بل یمکن أن یقال إن المستفاد من بعض الروایات هو کفایة الإطمئنان من الإخبار ولو عن غیر العادل (بناء علی عدم تأتي العدالة من المخالفین) وذلک في صحیحة ذریح المحاربي قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: صلّ الجمعة بأذان هؤلاء فإنهم أشدّ شيء مواظبة علی الوقت[20].

الثانية: ما دل علی إعتماد قول الثقة في إستبراء الجاریة:

منها: صحیحة حفص بن البختري عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فِي الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْأَمَةَ مِنْ رَجُلٍ فَيَقُولُ إِنِّي لَمْ أَطَأْهَا؟ فَقَالَ إِنْ وَثِقَ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْتِيَهَا الْحَدِيثَ[21].

ومنها: صحیحة عبد الله بن سنان قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام قُلْتُ أَ رَأَيْتَ إِنِ ابْتَاعَ جَارِيَةً وهِيَ طَاهِرٌ وزَعَمَ صَاحِبُهَا أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا مُنْذُ طَهُرَتْ؟ قَالَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ أَمِيناً فَمَسَّهَا وقَالَ إِنَّ الْأَمْرَ شَدِيدٌ فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَتَحَفَّظْ لَا تُنْزِلْ عَلَيْهَا[22].

ومنها: ما عن الفقه الرضوي: «إن كان البائع (أي البائع للأمة) ثقة وذكر انه استبرأها جاز نكاحها من وقته، وإن لم يكن ثقة استبرأها المشتري بحيضة»[23].

و الأصل وإن كان يقتضي عدم الوطي فلا يحتاج الى الإستبراء، ولكن لما كان ذلك غالباً في الإماء كان ظاهر حالهن كونهن موطوءات، فلزم الإستبراء، إلا أن يكون البائع ثقة، بل الظاهر من الرواية أنّ الوطي أمر مفروغ فيها.

ودعوی أن قبول قوله من جهة أنه صاحب الید علیها وحجیة قوله لا تدل علی حجیة قول الخبر الواحد مرفوضة بأن الإعتماد علی الید في أمثال المقام والذي غلب عليها الحرمة، مشکل حیث إن الأصل في الإماء كونها موطوءة إلا من شذ منهن، وإلا لوجب الاعتماد على قول ذي اليد إذا لم يكن متهما، ولا يحتاج الى اعتبار الوثاقة كما في غيرها من موارد حجية قول ذي اليد، فإن عدم الإتهام كافٍ فيها ولا يعتبر الوثاقة بالخصوص[24].

وقد یقال: إن الظاهر من قوله علیه السلام: «إن کان عندک أمیناً» و«إن وثق به»، هو اشتراط قبول قوله بحصول الإطمئنان الشخصي من کلامه، فلا تدل علی حجیة الخبر الواحد مطلقاً وإن لم یحصل منه إطمئنان شخصي. نعم إن الظاهر من روایة الفقه الرضوي «إن کان البائع ثقة»هو الوثاقة النوعیة لا الشخصیة ولکنها ضعیفة السند.

الثالثة: ما دلت علی أن إخبار الرجل بأن المرأة الفلانیة له مسموع؛ ففي موثقة زرعة عن سماعة قال: سألته عن رجل تزوج أمة «جارية» أو تمتع بها فحدثه رجل ثقة أو غير ثقة فقال إن هذه امرأتي وليست لي بينة؟ فقال: إن كان ثقة فلا يقربها وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه[25].

الرابعة: ما دل علی إعتبار إخبار الثقة بالوصیة فعن إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ عِنْدِي دَنَانِيرُ وَكَانَ مَرِيضاً فَقَالَ لِي إِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ فَأَعْطِ فُلَاناً عِشْرِينَ دِينَاراً وأَعْطِ أَخِي بَقِيَّةَ الدَّنَانِيرِ فَمَاتَ ولَم أَشْهَدْ مَوْتَهُ فَأَتَانِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ صَادِقٌ فَقَالَ لِي إِنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكَ انْظُرِ الدَّنَانِيرَ الَّتِي أَمَرْتُكَ أَنْ تَدْفَعَهَا إِلَى أَخِي فَتَصَدَّقْ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ اقْسِمْهَا فِي الْمُسْلِمِينَ ولَمْ يَعْلَمْ أَخُوهُ أَنَّ عِنْدِي شَيْئاً؟ فَقَالَ أَرَى أَنْ تَصَدَّقَ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِير[26].

الخامسة: ما دلّ علی على ثبوت عزل الوكيل في مقام إبلاغ العزل، ففي صحيحة هشام بن سالم: «والْوَكَالَةُ ثَابِتَةٌ حَتَّى يَبْلُغَهُ الْعَزْلُ عَنِ الْوَكَالَةِ بِثِقَةٍ يُبَلِّغُهُ أَوْ مُشَافَهَةٍ بِالْعَزْلِ عَنِ الْوَكَالَة»[27].

ولا یخفی أن الوثاقة في هذه الروایات الثلاثة الأخیرة غیر ظاهرة في الوثاقة الشخصیة بل الظاهر وثاقة المخبر بقول مطلق.

وقد یستشکل علی الإستدلال بهذه الطوائف أن غاية ما يثبت بذلك هو اعتبار خبر الثقة في هذه الموارد خاصة، ولا يمكن التعدي عنها الى غيرها.

وفیه: إن العرف عندما یری الحکم الواحد في الموارد المتعددة یلغي الخصوصیة عنها فلا یحتمل أن للوصیة أو استبراء الأمة أو عزل الوکیل خصوصیة توجب التعبد والأخذ بقول الثقة. ولاسیما إذا ضممنا هذه الروایات إلی السیرة العقلائیة فیستکشف عرف المتشرعة،أن هذه الروایات تطبیق وتأیید لما هو المتعارف بین العقلاء من الأخذ بقول الثقة وهو كما مر غير مختص بمورد دون مورد.

نعم احتمل المحقق الهمداني کون الرجوع إلی قول الثقة في الإخبار عن الوقت من باب الرجوع إلی أهل الخبرة وإن کان إخباره عن حدس[28].

وفیه: إن کثیرا مّاً یکون المخبر عن دخول الوقت غیر خبیر بالقواعد الفلکیة بل إنما اطلع علی الأوقات الشرعیة من جهة أنه إبن البلد ورجوع العرف إلیه من هذا الباب لا أکثر من ذلک. فعندما یرجع إلیه عرف المتشرعة للإطلاع عن الوقت الشرعي ففي الحقیقة یرید منه أن یخبره عما رآه في التقویم الشرعي لا أنه یخبره عن نتیجة ما توصل إلیه في القواعد الفلکیة.

الدلیل الثالث؛ مفهوم آية النبأ:

إن مفهوم قوله تعالی: «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصيبُوا قَوْماً بِجَهالَة» (الحجرات: 6) هو إنتفاء التبین والتوقف إذا لم یجئ الفاسق بنبأ فلو جاء العادل بالنبأ فینتفي التبین وهو المطلوب[29] سواء أ کان إخباره عن الأحکام أو عن الموضوعات ولا سیما مورد الآیة هو الإخبار عن الموضوعات، فالذي نزلت الآیة في شأنه إنما أخبر عن منع بني المصطلق عن إعطاء الزکاة[30] وهو إخبار عن الموضوع لا الحکم.

وقد أورد علی الإستدلال بها بإیرادات متعددة نذکر أهمّها:

أولاً: إن القضية الشرطية على القول بثبوت المفهوم لها إنما تدل على الانتفاء عند الانتفاء إذا لم يكن الشرط دخيلا في تحقق موضوع الحكم على نحو إذا انتفى الشرط لم يبق موضوع للحكم أصلا كما في قوله إن رزقت ولدا فاختنه بل كان الشرط شرطا للحكم فقط كما في قوله إن جاءك زيد فأكرمه ففي مثله يقع الكلام في ان الشرط إذا انتفى فهل ينتفي الحكم بانتفائه أم لا والحال أنّ الآية الشريفة من قبيل الأول أي مسوقة لبيان تحقق الموضوع فإن الفاسق إن لم يجئ بالنبإ فلا نبأ كي يجب التبين عنه أم لا يجب فلا مفهوم لها أو مفهومها السالبة بانتفاء الموضوع أي إن لم يجئ الفاسق بالنبإ فلا يجب التبين عنه لعدم الموضوع حينئذ وهو النبأ.

وتوهم أن عدم مجي‏ء الفاسق بالنبإ يشمل ما لو جاء العادل بالنبإ فلا يجب التبين عنه فيثبت المطلوب فاسد فإنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط عن الموضوع المذكور في القضية لا عن الموضوع الأجنبي[31].

ثانیاً: انا سلمنا أن الآية الشريفة تدل مفهوما اما من جهة الشرط أو الوصف على أن خبر العادل حجة مطلقا ولو لم يفد العلم ولكن التعليل بقوله تعالى «أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» مما يدل منطوقا على أن الخبر الّذي لا يؤمن الوقوع في الندم من العمل به ليس بحجة و لو كان المخبر عادلا و الترجيح للتعليل[32].

ثالثاً: وعلى تقدير دلالتها على اعتبار خبر العدل لكان المفهوم معارضاً بالحصر المستفاد من رواية مسعدة بن صدقة فإنّه حصر طريق إثبات الموضوعات بالعلم أو البيّنة، فلا عبرة بخبر الواحد فيها[33] ولا يمكن تقييدها بمفهومها؛ لأن عطف خبر العدل على البينة مستهجن؛ لأنه من عطف الجزء على الكل بخلاف رفع اليد عن المفهوم فإنه لا محذور فيه[34]. وکما ذکرنا أنه سیأتي التعرض للروایات الظاهرة في المنع عن العمل بخبر العدل الواحد.

الدلیل الرابع؛ اعتبار قول المؤمن:

وقد استدل[35] علی ما ورد من الأخذ بقول المؤمن: کقوله جلّ شأنه: وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (التوبه: 61) وکقوله صلی الله علیه وآله وسلم[36] «المؤمن وحده حجّة[37]»، والأصل صيانة المسلم عن الكذب، لأنّ الأصل الصحّة في أقواله وأفعاله، إذ لا منازع له[38].

وکیف کان، فمع غض النظر عن بعض الإشکالات التي قد ترد علی بعض هذه الأدلة، فهي في الجملة تدل علی إعتبار الخبر الواحد (إذا کان ثقة) فالمقتضي تام؛ فالعمدة هي ملاحظة ما یستدل به للمنع بالأخذ بهذه الأدلة فیجب ملاحظة أنّ المانع تامّ عندئذ أم لا؟

وجود المانع:

وعمدة ما استدل به المانعون هي بعض الروایات التي ظاهرة في المنع عن الأخذ بقول الثقة الواحد وأن الموضوعات لا تثبت إلا بعلم الوجداني أو البینة ونذکرها ضمن طائفتین:

الطائفة الأولی: موثقة مسعدة بن صدقة عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ كُلُّ شَيْ‏ءٍ هُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ فَتَدَعَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ وذَلِكَ مِثْلُ الثَّوْبِ يَكُونُ عَلَيْكَ قَدِ اشْتَرَيْتَهُ وهُوَ سَرِقَةٌ أَوِ الْمَمْلُوكِ عِنْدَكَ ولَعَلَّهُ حُرٌّ قَدْ بَاعَ نَفْسَهُ أَوْ خُدِعَ فَبِيعَ قَهْراً أَوِ امْرَأَةٍ تَحْتَكَ وهِيَ أُخْتُكَ أَوْ رَضِيعَتُكَ والْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى هَذَا حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ تَقُومَ بِهِ الْبَيِّنَةُ[39].

 فإنّها اشتملت على أُمور ثلاثة، ودلت على أن اليد في الثوب وأصالة عدم تحقق النسب أو الرضاع في المرأة، والإقرار على العبودية في العبد حجة معتبرة لا بدّ من العمل على طبقها إلّا أن يعلم أو تقوم البيِّنة على خلافها، فمنها يستفاد أن البيِّنة حجة شرعاً ومعتبرة في إثبات الموضوعات المذكورة في الحديث من الملكية والأُختية والحرية، فيترتب عليها أحكامها وحيث إن كلمة «الأشياء» جمع محلّى باللّام وهو من ألفاظ العموم ولا سيما مع تأكيده بكلمة «كلّها» فنتعدى عنها إلى سائر الموضوعات.

وقد یستشکل علیها تارة بضعفها سنداً وأخری دلالة.

أما الضعف السندي فمن ناحیة مسعدة بن صدقة فلم یرد في حقه توثیق صریح بل ذکر الشیخ الطوسي أنه عامي[40] وقال النجاشي إنه بُتري[41]. هذا مضافاً إلی تضعیف إبن داود الحلي[42] والعلامة المجلسي[43] له وکذلک العلامة الحلي حیث ذکر إسمه في الجزء الثاني من کتابه المخصص لمن ضعفه أو توقف فیه[44].

ولکن هناک قرائن علی توثیقه:

الأولی: کثرة نقل هارون بن مسلم عنه وهو من أجلاء الأصحاب حیث قال انجاشي في ترجمته: «ثقة وجه‏»[45].

الثانیة: عمل الطائفة بروایاته فقد قال المجلسي الأول: «والذى يظهر من أخباره أنه ثقة لأن جميع ما يرويه في غاية المتانة والموافقة لما يرويه الثقات، ولذا عملت الطائفة برواياته، كما عملت برواية غيره من العامة بل لو تتبعت وجدت أخباره أسدّ وأمتن من اخبار مثل جميل بن دراج، وحريز بن عبد اللّه [46]».

الثالثة: وقوعه في أسناد کامل الزیارات[47] وتفسیر القمي[48] فبناء علی صحة رجالهما، فوقوعه في أسانیدهما أمارة علی وثاقته. والسید الخوئي وإن کان یتبنی هذا المبنی فوثق مسعدة بن صدقة في بعض کتبه[49] ولکنه تراجع فیما بعد عن هذا المبنی فاعتبره ضعیفاً[50].

فهذه القرائن باجتماع بعضها إلی بعض تورث الإطمئنان بوثاقة الرجل ولا سیما إن الإشکال في عدم ورود توثیق صریح في حقه لا أن الرجالیین قد ضعفوه. وإن أبیت إلا عن ضعفه، فیمکن صحیح هذه الروایة بالشهرة العملیة حیث إن المشهور بین الأصحاب هو عدم حجیة القول الثقة في الموضوعات فتکون الشهرة جابرة لضعفها.

وأما من ناحیة الدلالة فقد أورد علیها بعدة إیرادات:

الأول: إن لفظة «البيِّنة» لم تثبت لها حقيقة شرعية ولا متشرعية وإنما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي وهو ما به البيان وما به يثبت الشي‌ء، ومنه قوله تعالى بِالْبَيِّنٰاتِ وَ بِالزُّبُرِ (فاطر: 25)، وقوله حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (البینة:1)، وقوله إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي (هود: 28)[51]. بل ادعی السید الخوئي أن ما ورد عن النبي صلّى اللّٰه عليه وآله وسلم من قوله: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان[52]» أي بالأيمان والحجج وما به يبيّن الشي‌ء، ولم يثبت في شي‌ء من هذه الموارد أن البيِّنة بمعنى عدلين، فغرضه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم من قوله: «إنما أقضي …» بیان أن سیرة النبي وأهل البیت علیهم السلام یختلف عن الإمام المهدي علیه السلام حیث یحکم طبق الواقع بینما هم یحکمون بحسب الحجج الظاهریة الأیمان. ثم حمل البینة في ما ورد عن النبي صلّى اللّٰه عليه وآله وسلم في مخاصمة امرئ القيس[53] علی مطلق الحجة لا الشاهدین[54].

وفیه: إن المصطلحات القرآنیة غیر المصطلحات الفقهیة. فمثلاً إن مفردة الصدقة في القرآن بمعنی الزکاة الشرعي ومفردة الزکاة في القرآن بمعنی مطلق الإنفاق في سبیل الله وکذلک الشهید والشهداء بمعنی الشاهد لا المقتول في سبیل الله. فلا یصح الإستشهاد بالمفردات القرآنیة لتعمیمه علی جمیع الروایات وحملها علی ما هو ظاهر من المفردات القرآنیة. ولا سیما أن الآیات القرآنیة في هذه الموارد لیست بصدد بیان وظیفة المکلفین في المخاصمات بل الغرض هو أن الأنبیاء صلوات الله علیهم أجمعین مؤیدین بالبراهین والحجج وإلا لا معنی لحمل قوله تعالی: «إن کنت علی بینة من ربّي» أن النبي في مقام إلقاء الحجة علی الکفار، أقام شاهدین علی دعوته. فقیاس المقام علی هذه الآیات القرآنیة، قیاس مع الفارق.

ثانیاً: لا یمکن حمل البینة في مخاصمة إمرئ القیس علی مطلق الحجة فالظاهر أن النبي طالبه بإقامة البینة بمعنی شهادة عدلین حیث إن لزوم إقامة شاهدین في الدعاوي من ضرورات الفقه فلا وجه لحملها علی مطلق الحجة. وبناء علی هذا فلا شاهد علی تخصیص البینة في قوله صلی الله علیه وآله وسلم: إنما أقضي .. علی مطلق الحجة.

الثاني: إنّ عدم ذكر إخبار العادل في قبال البيِّنة والعلم إنما هو لأجل خصوصية في مورد الرواية، وهي أن الحلية في مفروض الرواية كانت مستندة إلى قاعدة اليد في مسألة الثوب ومن المعلوم أنه لا اعتبار لإخبار العادل مع اليد، وكأنه (عليه السلام) بصدد بيان ما هو معتبر في جميع الموارد على وجه الإطلاق[55].

وفیه: سلمنا هذه الدعوی بخصوص الثوب والعبد ولکنه لا وجه لهذه الدعوی بالنسبة إلی الزوجة فلا ید لأحد علی المرأة الحرة مضافا إلی أنه لا معنی لإعمال قاعدة الید بالنسبة إلیها.

الثالث: وقد یقال: إنّ عدم الردع عن العمل بقول العدل الواحد في الموضوعات قبل الإمام الصادق عليه السّلام في صدر الإسلام محرز لعدم نقل ما يدل على الردع، ويكشف ذلك عن الإمضاء حدوثاً، فإذا أوجب خبر مسعدة الشكّ في نسخ ذلك الإمضاء جرى استصحاب الإمضاء[56].

وفیه: إن الروایات التي وصلت إلینا قبل الإمام الصادق علیه السلام قلیلة فلعلها صدرت من النبي والمعصومین علیهم السلام ولم تصل إلینا. اللهم إلا أن یقال: إن هذه المسألة من المسائل الإبتلائیة في کل عصر ومصر، فلو صدر شيء من الشارع لوصل إلینا حتماً أو لا أقل من نقلها عن الأئمة المعصومین علیهم السلام فهناک کثیر من الروایات النبویة والعلویة قد وصلت إلینا عن طریق المعصومین المتأخرین صلوات الله علیهم.

الرابع: إن الرواية ليست بصدد حصر المثبت فيهما لوضوح أن النجاسة وغيرها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالإستصحاب وبأخبار ذي اليد[57].

الخامس: أنّ رواية واحدة لا تكفي لإثبات الردع لأنّ مستوى الردع يجب أن يتناسب مع درجة قوّة السيرة وترسخها، فإن قد أشرنا سابقاً أن العرف یتعامل مع إخبار الثقة معاملة العلم فلا یلتفت إلی إحتمال الخلاف وعلی هذه السیرة دارت حیاتهم ولولاها لاختلت نظام معاشهم. ومثل هذه السيرة على العمل بخبر الثقة لو كان الشارع قاصدا للردع عنها لأصدر بيانات كثيرة ولوصلتنا منها نصوص عديدة كما صار بالنسبة للقياس، ولما اكتفى بإطلاق خبر من هذا القبيل[58].

لا یقال: إن هناک روایات أخری (سنتعرض لها) تدل علی عدم حجیة إخبار واحد في الموضوعات، فلیس الرادعیة منحصرة في هذه الموثقة.

قلنا: لیس لسان تلک الروایات، إنحصار طرق الإثبات، في العلم الوجداني أو البینة (کما هو لسان الموثقة) بل إنما تعرضت لموارد خاصة وأمرت الراوي بالتثبت في الموضوع وأن یرجع إلی قول البینة من دون ذکر قاعدة عامة انحصاریة.

الطائفة الثانية: الروایات المختلفة التي وردت في موارد خاصة تدل علی انحصار سبب تحصیل العلم بالبینة:

منها: الروایات المتواترة التي تدل علی أنه إذا أقر واحد من الورثة بوارث أو بعتق أو دین لزمه ذلک بنسبة حصته ولا تقبل شهادته بالنسبة إلی سائر الحصص وقد عقد لها صاحب الوسائل باباً فلاحظ الباب 23 من أبواب الوصایا ونحن نذکر روایة من هذا الباب: صحیحة مَنْصُور بْن حَازمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ علیه السلام فِي رَجُلٍ مَاتَ فَتَرَكَ عَبْداً فَشَهِدَ بَعْضُ وُلْدِهِ أَنَّ أَبَاهُ أَعْتَقَهُ؟ فَقَالَ تَجُوزُ عَلَيْهِ شَهَادَتُهُ وَ لَا يُغْرَمُ ويُسْتَسْعَى الْغُلَامُ فِيمَا كَانَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْوَرَثَةِ[59].

ومنها: الروایات الدالة علی عدم ثبوت الهلال إلا بشهادة عدلین (وربما تصل هذه الروایات من الکثرة حد التواتر) ونذکر واحدة منها وهي صحیحة الْحَلَبِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّ عَلِيّاً ع كَانَ يَقُولُ لَا أُجِيزُ فِي الْهِلَالِ إِلَّا شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ[60].

ومنها: مصححة الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام عَنِ الْمُطَلَّقَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا ولَا تَعْلَمُ إِلَّا بَعْدَ سَنَةٍ والْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ولَا تَعْلَمُ بِمَوْتِهِ إِلَّا بَعْدَ سَنَةٍ؟ قَالَ إِنْ جَاءَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ فَلَا تَعْتَدَّانِ وَ إِلَّا تَعْتَدَّانِ[61].

فإنه لم یرد توثیق في حق الحسن بن زیاد ولکنه روی عنه بعض أصحاب الإجماع کعبد الله بن مسکان وأبان بن عثمان الأحمر.

ومنها: مصححة صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الله الْخَثْعَمِيِّ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى علیه السلام عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِي صَدُوقٍ زَعَمَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْ جَارِيَةً لِي أُصَدِّقُهَا قَالَ لَا[62].

فإنه وإن ضعف بعض رجال هذا السند کعبد الله بن خداش وسلمة بن خطاب ولم یرد توثیق في صالح بن عبد الله الخثعمي ولکنه قد روی الأجلاء وبعض أصحاب الإجماع ومشایخ الثقات عن هؤلاء فیمکن تصحیحهم بهذا الوجه.

ومنها: مصححة يُونُسَ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ فَسَأَلَهَا لَكِ زَوْجٌ فَقَالَتْ لَا فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ هِيَ امْرَأَتِي فَأَنْكَرَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ؟ فَقَالَ هِيَ امْرَأَتُهُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَة[63].

ومنها: مصححة عَبْدِ الله بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله علیه السلام فِي الْجُبُنِّ قَالَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى يَجِيئَكَ شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ أَنَّ فِيهِ مَيْتَةً[64].

وقد ضعفها السید الخوئي لعدم ورود توثیق صریح في حق عبد الله بن سلمان ولکنه قد روی عنه أمثال یونس بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان الأحمر وإبن مسلکان فهو ثقة علی التحقیق.

وکیفیة الإستدلال بهذه الروایات[65] أن کثرة هذه الروایات وإنقسامها إلى أبواب كثيرة من الفقه توجب الإطمئنان بأنها تشیر إلی قاعدة کلیة لا تختص بباب دون باب وهي عدم حجیة خبر الواحد في الموضوعات، وهذا يعني الردع عن السيرة لو تمّت في نفسها.

ویرد علی هذا الإستدلال أنه:

أولاً: إنها معارضة بالروایات التي تدل الإکتفاء بقول الثقة في الموضوعات (والتي تعرضنا إلیها في مرحلة المقتضي).

ثانیاً: إنّ هذا الإستدلال لو تمّ فإنّما يتمّ في القاسم المشترك الّذي تشترك فيه أكثر هذه الروايات، وهي موارد ترقّب تدخل الحاكم فيها من قبيل الهلال والحدود والنكاح والطلاق والنزاع في الوصیة، إمّا من باب أنّ من حقّ الحاكم ابتداء التدخّل كما في الهلال أو من باب أنّ المسألة ذات طرفين فيترقّب الإنتهاء إلى النزاع، کما في النزاع في الوصیة وأمثالها أمّا ما يغلب عليه جانب الفرديّة البحتة كما في الطهارة والنجاسة وتحدید مسافة السفر فاحتمال الفرق وارد. نعم قد نفرض أن موارد الطهارة والنجاسة قد تؤدّي أيضا إلى قضايا ذات طرفين و إلى النزاع، کما لو اختلف البائع والمشتري في طهارة الجبن المشتری ونجاسته، فعندئذ إذا ترافعا إلی الحاکم فلا محالة یطالب المدعي بإقامة بینة علی دعواه نجاسة الجبن وهذا من جهة قواعد القضاء لا من جهة عدم حجیة الخبر الواحد.

ثالثاً: إذا تتبعنا هذه الروایات نری أن موردها في الغالب، راجع إلی أحد الأمور الثلاثة:

فإذن إذا کان الأمر مهمّا (إما من جهة إرتباطه بصدور الحکم أو من جهة إرتباطه بالفروج) أو مخالفا لقواعد مسلمة فقهیة، فلابد من التریث والتأمل إلی أن تقوم به البینة والذي یساعدنا علی هذا الإعتبار ما ورد ذیل صحیحة عبد الله بن سنان (إِنْ كَانَ عِنْدَكَ أَمِيناً فَمَسَّهَا وقَالَ إِنَّ الْأَمْرَ شَدِيدٌ فَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَتَحَفَّظْ لَا تُنْزِلْ عَلَيْهَا) فرغم أن صاحب الجاریة أمینا وهو صاحب الید علیها، أمر الإمام بالتحفظ والإحتیاط فقد نستفید منها قاعدة کلیة وهي أن الأمور الشدیدة والمهمة لا یکتفی فیها بقول الثقة الواحد فلابد من التثبت بإخبار البینة.

ویؤید هذا الوجه سیرة المتشرعة (من الفقهاء وغیرهم) علی العمل بقول العدل الواحد في الموضوعات التي لا ترجع إلی الأمور الخطیرة کالطهارة والنجاسة وتحدید المسافة الشرعیة؛ فإذا أخبرهم أحد بأنه رأی النجاسة في النقطة الفلانیة أو أنه طهر المتنجس الفلاني لا یترددون في الأخذ بقوله بل إذا تردد شخص في قول من أخبر بطهارة المکان الفلاني أو بتطهیره یتهم بالوسواس. بل إذا أخبر الممیز بحصول النجاسة أو الطهارة یأخذون بقوله إذا حصل الإطمئنان بقوله (والحال أن ینکر حجیة الخبر الواحد في الموضوعات لا یفرق بین ما إذا حصل الإطمئنان من قوله أم لا).

وکذلک نری أن المتشرعة في أسفارهم یعملون بإخبار العدل الواحد إذا أخبرهم بأنهم قد تجاوزوا حد التقصیر فلا نری أحدا یتوقف عند إخبار العدل الواحد وینتظر إقامة البینة علی تجاوزه حد التقصیر.

وکل ذلک لا یکون إلا بأن المتشرعة لم یستظهروا من الروایات لزوم إقامة البینة في أمثال هذه الأمور غیر الخطیرة. بل یمکن أن یقال: إن توقف ثبوت الموضوعات علی إقامة البینة قد توجب العسر والحرج في ما یرتبط بمعادهم ومعاشهم.

ملاك حجية خبر الواحد:

بقي هنا شي‌ء: وهو أنه بناء على حجية خبر الواحد في الموضوعات هل يعتبر فيها «العدالة» أو يكفي «الوثوق» فقط؟

ذکرنا أن العمدة في حجیة الخبر الواحد في الموضوعات هي السیرة العقلائیة ولا شك أن بنائهم على الاعتماد بخبر الثقة، من دون ملاحظة العدالة فيما لا يرتبط بالأخبار. وقد صرح بعض المتأخرین بهذا الأمر قائلاً: «الأظهر عدم اشتراط العدالة المصطلحة، وكفاية كون المخبر ثقة مأمونا محترزا عن الكذب، لاستقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقات في الحسّيّات التي لا يتطرّق فيها احتمال الخطأ احتمالا يعتدّ به لديهم ممّا يتعلّق بمعاشهم ومعادهم، وليست حجّيّة خبر الثقة لدى العقلاء إلّا كحجّيّة ظواهر الألفاظ»[66].

هذا مضافاً إلی أن الظاهر من قول الإمام صحیحة إبن البختري: «إن وثق به»، وقوله علیه السلام في صحیحة عبد الله بن سنان: «إن کان عندک أمیناً» وقوله علیه السلام في صحیحة هشام بن سالم: «حتی یبلغه العزل عن الوکالة بثقة یبلغه» هو أن العبرة بوثاقة المخبر عن الکذب لا عدالته، فمجرد إحراز أن المخبر لا یکذب في إخبار کافٍ لتصدیق قوله وإن لم یکن عادلاً بحسب المصطلح الفقهي.

ثم إن المعیار هو حصول الظن النوعي بخبره حیث إن ذلک مقتضی بناء العقلاء عند احتجاجهم بخبر الثقة فیما إذا أخبر بموضوع أو حكم، فإنهم يرونها حجة على العبيد، ومن شابههم، ولا يصغون الى اعتذارهم بعدم حصول الوثوق الفعلي[67] وهذا هو الظاهر من صحیحة هشام بن سالم وصحیحة سماعة کما أشرنا سابقاً. نعم إذا کانت هناك قرائن خاصة توجب اتهام المخبر في خبره، فلا يبعد حینئذ ردّه.

النتیجة:

فقد تبین مما ذکرنا أن المقتضي لحجیة الخبر الواحد في الموضوعات التي تترتب علیها الأحکام الشرعیة، تام في الجملة وأن المانع عن هذه الحجیة أیضاً مرتفع إلا في الأمور الخطیرة والمهمة. فلا شک من اعتبار خبر الواحد الثقة في الموضوعات غیر خطیرة سواء أفاد الاطمينان الشخصي بما أخبر به أم لا، والشاهد لذلك عدم سماع العذر عن المخالفة بعدم إفادة إخباره الاطمينان.

 

 

 

 

 

 

 

المصادر:

 

[1]. السید محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج1 ص 273.

[2] . ولا یخفی أن هذا الأصل  العقلائي (کسائر الأصول العقلائیة) لیس أصلا تعبدیا بل قائم علی نکتة الکشف فبما أن الغالب في الأخبار التي من شأنها إدراکها بالحس کونها بداعي الإخبار عن حسّ لا عن حدس یتحقق للخبر ظهور تصدیقي سیاقي في کونه بهذا الداعي، فالمخبر حینما یُخبر عن شيء فمن شأنه إدراکه حساً کموت زیدٍ فکأنه یخبر: «أنّي أدرکت حسّاً أن زیداً مات»، فإذا کان هذا المخبر ثقة اعتمدنا علی ما یظهر من کلامه من أن إخباره إخبار حسي، فالحسيّة في الحقيقة تثبت بضمّ قانون حجّيّة الظهور إلى حجّية خبر الثقة من دون أن تكون أصالة الحسّ أصلاً ثالثاً مستقلاً في قبال أصالة الظهور وحجّيّة خبر الثقة، فلو اكتنف الكلام بما يصلح للقرينيّة على الحدس ويوجب الإجمال سقط الدليل على حسيّة الخبر، كما يسقط لدى إقامة القرينة الفعليّة على الحدس. راجع مباحث الأصول للشهید الصدر، ج2 ص598.

[3] . العلامة الحلي، نهاية الإحكام: كتاب الطهارة في الماء المشتبه ج 1 ص252.

[4] . الشیخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج‌16، ص: 362.

[5] . سيد جواد بن محمد الحسينى‌ العاملي، مفتاح الکرامة، ج 17 ص767.

[6]. کالعلامة في تذكرة الفقهاء: في لقطة الأموال ج 2 ص264 س 27، والشهید الأول في الدروس الشرعية: في تعريف اللقطة ج 3 ص89، والشهید الثاني في مسالك الأفهام: في مسائل من أحكام اللقطة ج 12 ص552، والمحقق الثاني في جامع المقاصد: في أحكام اللقطة ج 6 ص185، والسید جواد العاملي في مفتاح الکرامة، ج‌17، ص: 845‌.

[7]. الشیخ یوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج5 ص251.

[8] . الشیخ جعفر کاشف الغطاء، کشف الغطاء (ط القدیمة) ص128.

[9] . الحاج آغا رضا الهمداني، مصباح الفقیه، ج6 ص96- 97.

[10] . الحاج آغا رضا الهمداني، مصباح الفقیه ج9 ص377.

[11] . السید محمد المجاهد، مفاتیح الأصول، ص404.

[12] . السید محمد المجاهد، المناهل، ص414.

[13] . السید محمد کاظم الیزدي، العروة الوثقی المحشی ج1 ص96.

[14]. الشیخ جواد التبریزي، تنقيح مباني العروة ؛ كتاب الطهارة، ج‌1، ص: 427‌.

[15] . المحقق النائیني، فوائد الأصول، ج3 ص 194 – 195

[16] . السید محسن الحکیم، مستمسک العروة الوثقی ج5 ص153 و ج8 ص19.

[17] . الشیخ عبد النبي العراقي النجفي، المعالم الزلفی في شرح العروة الوثقی، ص409.

[18] . الشیخ الحر العاملي، وسائل الشیعة، ج 5 ص379 الباب 3 من أبواب الأذان والإقامة ح 3.

[19] . نفس المصدر، ج 10ص 111؛ الباب 42 من أبواب ح1.

[20] . نفس المصدر، ج 5 ص378 الباب 3 من أبواب الأذان والإقامة ح 1.

[21] . نفس المصدر ، ج 18 ص260؛ الباب 11 من أبواب  ح2.

[22] . نفس المصدر، ج  18 ص 261؛ الباب 11 من أبواب ح3.         

[23] . المحدث النوري، مستدرک الوسائل، ج2 ص 486.

[24]. ناصر المکارم الشیرازي، القواعد الفقهیة، ج2 ص 88.

[25] . الشیخ الحر العاملي، وسائل الشیعة، ج20 ص261 الباب 23 من أبواب عقد النکاح.

[26] . نفس المصدر، ج 19 ص433؛ الباب 97 من أبواب الوصیة ح1.

[27] . نفس المصدر، ج19 ص 162، الباب 2 من أبواب الوكالة،ح1.

[28] . الحاج آغا رضا الهمداني، مصباح الفقیه ج9 ص378.

[29] . الشیخ مهدي کاشف الغطاء، أحکام المتاجر المحرمة ص70؛ المولی أحمد النراقي، عوائد الأیام ص820؛ السید أبو القاسم الخوئي، التنقیح ج1 ص320.

[30] . العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ج22 ص53.

[31] . الشیخ مرتضی الأنصاري، فرائد الاصول، ج‏1 ص118.

[32] . نفس المصدر.

[33] . المیرزا النائیني، کتاب الصلاة، ج1 ص133.

[34] . المیرزا جواد التبریزي، تنقيح مباني العروة ؛ كتاب الطهارة، ج‌1 ص427‌.

[35] . المولی أحمد النراقي، عوائد الأیام ص820.

[36] . السید جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ج17 ص767؛ الشیخ عبد النبي العراقي، المعالم الزلفی في شرح العروة الوثقی، ص409.

[37] . الشیخ الحر العاملي، وسائل الشیعة ج8 ص297، باب 4 من أبواب صلاة الجماعة ح4.

[38] . السید جواد العاملي، مفتاح الكرامة،  ج‌17، ص: 767‌.

[39] . وسائل الشیعة ج 17 ص273.

[40] . محمد بن الحسن الطوسي، الرجال، أصحاب‏أبي‏جعفر ص 146.

[41] . ابو عمرو محمد بن عمر الکشي، إختیار معرفة الرجال، ج1 ص 390.

البتریة طائفة من الزّيديّة يجوّزون تقديم المفضول على الفاضل، يقولون أنّ أبا بكر وعمر إمامان وإن أخطأت الامّة في البيعة لهما مع وجود عليّ عليه السّلام ولكنّه خطأ لم ينته إلى درجة الفسق، وتوقّفوا في عثمان. ودعوا إلى ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام، ويرون الخروج مع بطون ولد عليّ عليه السّلام ويذهبون في ذلك إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويثبتون لكلّ من خرج من أولاد عليّ عليه السّلام عند خروجه الامامة (لاحظ: من لا يحضره الفقيه، ج‌4، ص: 544‌- 545).

[42] . إبن داود الحلي الرجال، ج1/باب‏الميم/344.

[43] . العلامة محمد باقر المجلسي، الوجیزة في الرجال، ص 178.

[44] . العلامة الحلي، الخلاصة، ص 260.

[45]. احمد بن علي النجاشي، رجال‏ النجاشي/باب‏الهاء/438.

[46] . السید محمد مهدي بحر العلوم، الفوائد الرجالية، ج‌3، ص: 338‌

[47] . محمد بن قولویه القمي، کامل الزیارات، ص 164.

[48] . علي بن إبراهیم القمي، تفسیر القمي، ج1 صص 153، 176، 213 وج 2 ص60.

[49] . موسوعة الإمام الخوئي ج1 ص 173.

[50] . موسوعة الإمام الخوئي ج2 ص 263.

[51] . موسوعة الإمام الخوئي، ج‌2، ص: 265.

[52] . وسائل الشیعة أبواب کیفیة الحکم وأحکام الدعوی ب2 ح1، ج 27 ص 230.

[53] . اختصم امرئ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه وآله وسلم في أرض. فقال: أ لك بيِّنة؟ قال: لا، قال: فيمينه، قال: إذن واللّٰه يذهب بأرضي، قال: إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممّن لا ينظر اللّٰه إليه يوم القيامة، ولا يزكيه وله عذاب أليم قال: ففزع الرجل و ردها إليه» وسائل الشیعة ج27 ص 235؛ أبواب كيفية الحكم ب 3 ح7.

[54] . موسوعة الإمام الخوئي ج 2 ص 263.

[55] . موسوعة الإمام الخوئي ج 2 ص 263.

[56].  مباحث الأصول، ج‏2، ص: 561.

[57] . موسوعة الإمام الخوئي، ج‌2، ص: 265.

[58] . السید محمد باقر الصدر، مباحث الأصول ج2 ص 561.

[59] . الشیخ الحر العاملي، وسائل الشیعة ج19 ص 324.

[60] .  لاحظ وسائل الشیعة ب11 من أبواب أحکام شهر رمضان، ج10 ص 286.

[61] . وسائل الشیعة ج22 ص 231؛ الباب 28 من أبواب العدد ح 9

[62] . وسائل الشیعة ج20 ص 401؛ الباب 12 من أبواب ما یحرم بالرضاع ح 2.

[63]. وسائل الشیعة ج 20 ص261 الباب 23 من أبواب عقد النکاح ح 3.

[64] . وسائل الشیعة ج 25 ص 118 الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة

[65] . وقد تعرض صاحب مباحث الأصول إلی وجوه أربعة لکیفیة الإستدلال بهذه الروایات ولا داعي لذکرها. راجع: مباحث الأصول ج2 ص 564.

[66] . الحاج آغا رضا الهمداني، مصباح الفقیه، ج8 ص 169.

[67] . ناصر مکارم الشیرازي، القواعد الفقهیة، ج2 ص99.



التعليقات

إرسال تعليقاتكم واقتراحاتكم

أسمك الكريم:

بريدك الإلكتروني:

رسالتك: