محاولة لتحقيق مسائل برهان النظام
الملخص
يدور هذا المقال حول برهان النظام –أو النظم-، فيعرضه ويبيّن المراد منه عبر بعض تطبيقاته المعاصرة، مع ذكر بعض الإشكاليات المثارة حوله وبيان مورد غفلة المُشكِل، لينكشف بذلك عدم ورود إشكاله.
التوطئة
عدَّ المتأخرون برهان النظام([1]) من براهين وجود الله عز وجل، وهو من البراهين الطريفة التي يسهل الالتفات إليها من قِبَل جميع الناس، فلأجل ذلك كان موضعا للاهتمام من قبل اتجاهي الإيمان والإلحاد.
وقد وُجّهت بعض الاعتراضات على هذا البرهان، وتمّ الترويج الإعلامي -بغير إنصاف- لهذه الاعتراضات على أنها تامّة محكمة، وبعد ملاحظتها وجدت أن جل هذه الاعتراضات، بل كلها ناشئ من عدم استيعاب فكرة البرهان على أصولها، فأردت أن أتقدّم بمحاولة علمية لتحقيق مسائل هذا البرهان، واللهَ أسأل التوفيق والتسديد.
عرض البرهان
يعتمد برهان النظام على مبدأين عقليين([2]):
المبدأ الأول: قانون العلية([3]):
ومفاد هذا المبدأ هو “الحادث له سبب”، والمراد بالحادث هو “ما لم يكن ثم كان” أو “ما له ابتداء وجود”، ويتضح المراد بالمثال:
لو صدر صوت في الشارع مثلا فسنحكم بأنه لابد من وجود سبب لهذا الصوت؛ لأنه “لم يكن ثم كان” (حادث)، وإذا كان الشيء حادثا، فلا بد له من سبب أحدثه، فهذا هو مبدأ العلية، وهو مبدأ مركوز في أذهاننا.
المبدأ الثاني: دلالة الإحكام على صفات خاصة:
ومفاد هذا المبدأ هو “مُسَبِّب الفعل المُحكم حي عالم قادر مختار”، وهذا المبدأ يتضح من خلال بيان المراد بالفعل المُحكم.
تمهيد في بيان الفعل المحكم:
لو كان لدينا مائة قطعة من الطابوق، وهذه القطع تقبل ترتيبات كثيرة فمن الممكن أن تشكل شكلا مربعا أو مستطيلا أو تشكل سلّما، فيوجد لدينا “مادة” -وهي الطابوق- تقبل أكثر من ترتيب، وكل ترتيب متشكل من هذه القطع نسميه “هيئة”([4]).
وعند ملاحظة هذه التراتيب نجد فيما بينها ترتيبًا معينًا له أثرٌ خاص معين غير موجود في غيره من التراتيب، فترتيب الطابوق بشكل يُمكّنُنا من الوصول للأعلى –وهو الترتيب على شكل سلّم- هو “الترتيب المحكم”؛ لأن بقية التراتيب لا تحقق ذلك الأثر الخاص التي يُحققه ذلك الترتيب.
وأيضا: لو كان لدينا حبر (المادة) يقبل تراتيب (هيئات) متعددة يمكن ترتيبه بها على الورقة، فعند كتابة بيت من الشعر يتوفّر لنا ترتيب للحبر (الهيئة)، وهذا الترتيب له غاية ويعطي أثرا، وهو إيصال المعنى، وهذا الأمر غير موجود في التراتيب الأخرى للحبر، فلو نثرنا الحبر بشكل عشوائي فلن يصل المعنى المطلوب والخاص الموجود في الشعر.
فيتحصّل مما تقدم: أن الفعل المحكم هو إحداث هيئة ذات أثر مميّز في مادة تقبل هيئات متعددة، فلا بد من توفّر:
ومن ثَمّ يكون إيجاد هذا الترتيب الخاص هو الفعل المحكم.
ومن أمثلة الفعل المحكم الموجودة في حياتنا “الكاميرا”؛ إذ نلاحظ أن مادّتها هي البلاستيك والزجاج وقطع الكترونية تتكون من أشباه الموصلات كالسيليكون والجيرمانيوم، ولكنها مرتبة ترتيبا خاصا وبكميات معينة، فالزجاج والبلاستيك وأشباه الموصلات تقبل تراتيب كثيرة جدا لا تكاد تُحصَر، ولكن صانع “الكاميرا” انتخب ترتيبا معيّنا خاصا، وهذا الترتيب تترتب عليه أهداف خاصة لا تترتب على بقية التراتيب، ومن هنا كان إيجاد هذا الترتيب الخاص في الكاميرا فعلا محكما.
هذا، وبعد أن اتضح المراد بالفعل المحكم نرجع إلى تقرير المبدأ الثاني، فنقول: إن كان ثَمّ فعلٌ محكم حادث (لم يكن ثمّ كان) فلا بد من أن يكون له مُسَبِّب أحدثه وفقا للمبدأ الأول، فينفسح المجال لاعتماد المبدأ الثاني (مُسَبِّب الفعل المحكم عالم قادر مختار) وهذا أمر يحكم به الوجدان من دون أي تردد([5])، فنحكم بأن صانع الكاميرا عالم بخصائص المادة بحيث يستطيع اختيار الهيئة المحققة للأثر الخاص، وكذلك نحكم بأن له القدرة على صناعتها وأنه مختار في تلك الصناعة.
توضيح هذا الوجدان: أن هذه المواد المستخدمة تقبل تراتيب وهيئات كثيرة جداً (مليار ترتيب وهيئة –مثلا-) والمفيد من هذه التراتيب قليل جدا بالنسبة للتراتيب الممكنة (خمسة هيئات فقط -مثلا-)، ومن ثَمّ إن لاحظنا أن الترتيب الذي حصل هو الترتيب المفيد النادر الوقوع = استنتجنا أنه لا بد من فاعل لذلك الترتيب –وفقا للمبدأ الأول-، وهذا الفاعل اختار ذلك الترتيب لعلمه بتلك الغاية والفائدة؛ وإلا فلماذا أحدَث هذا الترتيب دون بقية التراتيب؟! فهو يعلم بأنه لو رتّب المادة بهذه الهيئة لحققت هذه الغاية، ومن خلال إيجاد الفاعل لهذه الهيئة نستكشف أنه قادر على إيجادها؛ لأنه لا معنى لإيجاد شيء من دون قدرة عليه؛ إذ الإيجاد فرع القدرة.
تنبيهان:
التنبيه الأول: لا يصح اعتبار وجود خصائص معينة في المادة فعلا محكما (فكون الألمنيوم مادة خفيفة –مثلاً- ليس فعلاً محكماً)، ولكن استفادتنا من خصائص المادة في ترتيب الهيئة التي تحقق الغاية هو الفعل المحكم (فاستفادتنا من الألمنيوم في صناعة الطائرة واستخدامه دون بقية المواد هو الفعل المحكم)، فالطريقة التي نستفيد منها من المواد لترتيب الهيئات هي التي تحدد الفعل المحكم.
والغرض من بيان هذه النقطة هو الالتفات إلى مورد برهان النظام ونكتته، فليس مورد برهان النظام نفس قوانين الطبيعة([6])، فاللازم –للاعتماد على برهان النظام- أن نبحث عن فعل محكم في الطبيعة بحيث يمثل استفادة من خصائص الطبيعة بشكل صحيح ودقيق ومحكم بحيث يحقق غاية معينة مع وجود خيارات كثيرة لاستخدام تلك القوانين بشكل مختلف.
وبعبارة مختصرة: برهان النظام قائم على حدوث ترتيب لمادة بالاستفادة من خصائصها لتحقيق أهداف خاصة.
التنبيه الثاني: معنى كون مُسبّب الفعل المحكم عالم قادر مختار –كما هو مفاد المبدأ الثاني- هو أن سبب الفعل المحكم يرجع بالنهاية لفاعل عالم قادر مختار ولو عن طريق الوسائط، فالساعة التي يتم إنتاجها من المصنع تقوم الآلات بصناعتها، لا بد من أن تنتهي سلسة المؤثرات في وجود الساعة إلى فاعل عالم قادر مختار، فلا بد من أن يكون مصمم المصنع متصفا بتلك الصفات في مثال الساعة، وهكذا.
فمن هنا يمكن أن يتم الفعل المحكم في الكون من خلال استغلال قوانين طبيعية استغلالا مؤديا إلى حدوث المجموعة الشمسية –مثلا- وليس مباشرة.
بل يمكن أن يكون إحكام فعل معين مبررا لحصول فعل محكم آخر، فمثلا يمكن أن يكون الانفجار العظيم قد تم بدقة عالية جدا بحيث يكون مقصودا منه إيجاد المجموعة الشمسية، فيكون إحكام المجموعة الشمسية مندمجا في إحكام الانفجار العظيم، ويكون ذلك كاشفا عن دقة عالية جدا في إحكام الانفجار العظيم، وهكذا الكلام في نشوء الخلية الحية ونشوء الكائنات الأخرى بما فيها الإنسان، نعم، لو أثبت العلم انتفاء العلاقة بين إحكام الانفجار العظيم مثلا وإحكام الخلية الحية لم يكن مجال لاندماج إحكام الخلية الحية في إحكام الانفجار العظيم.
فالحاصل أن حدوث الفعل المحكم يكشف إجمالا عن وجود فاعل مختار عالم قادر من دون أن يكشف عن مركز تدخّل هذا الفاعل في إحداث هذا الإحكام.
تطبيقات القاعدة([7]) على الطبيعة لإثبات وجود الله عز وجل:
بعد أن تحَصّل لدينا الأساس العقلي لبرهان النظام ينبغي أن نلاحظ موارد تطبيقه في الطبيعة، والعهدة في هذه المرحلة على علماء الطبيعة، والمستفاد من بحوثهم أن هناك أكثر من مورد يمكن تطبيق برهان النظام عليه، وهي كالتالي:
التطبيق الأول: الانفجار العظيم:
بدأ الكون -وفقا لما قرره علماء الكونيات- بانفجار عظيم تم بشكل دقيق جداً، وهذا الانفجار يقبل أن يتحقق بكيفيات متعددة، فلو حصل بشكل مختلف عمّا وقع عليه في كوننا = لم يمكن للكون علميّا أن يستقر بحيث تتكون المجرات والنجوم والكواكب.
فنفس الانفجار العظيم “فعل مُحكم”؛ لتوفر أركان الفعل المحكم، وهي: المادة القابلة لأكثر من هيئة (مادة الكون تقبل أكثر من انفجار)، والهيئة الحاصلة يترتب عليها غاية خاصة (الانفجار الحاصل يترتب عليه استقرار الكون)، ونسبة الهيئات المحققة للغاية قليلة جدا بالنسبة للهيئات الممكنة.
التطبيق الثاني: نشوء المجموعة الشمسية وصلاحية الأرض للحياة:
تكونت مجموعتنا الشمسية على هيئة خاصة تسمح بنشوء الحياة، فبُعد الأرض عن الشمس وحجم الأرض والشمس ومقدار الطاقة الذي توفره الشمس للأرض وتوفر الغلاف الجوي في الأرض وتوفر قمر واحد بالحجم والبعد الحاصلين فعلا في كوكبنا وتوفر الغازات المناسبة للحياة بالنّسب المناسبة وسرعة دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس؛ كلُّ ذلك وغيره مما لا بد منه لنشوء الحياة على هذا الكوكب، فلو تغيّرت هذه الأمور بشكل معتد به أو بشكل بسيط لم يمكن أن تنشأ الحياة على هذا الكوكب.
فنشأة المجموعة الشمسية “فعل محكم”؛ لتوفر أركان الفعل المحكم، وهي: المادة القابلة لأكثر من هيئة (مادة المجموعة الشمسية تقبل أكثر من تنظيم وتوزيع)، والهيئة الحاصلة يترتب عليها غاية خاصة (خصوصيات مجموعتنا الشمسية يترتب عليها توفّر الظروف للحياة البيولوجية)، ونسبة الهيئات المحققة للغاية قليلة جدا بالنسبة للهيئات الممكنة.
إشكال
قد يورَد إشكال على هذا التطبيق بأنه لا دليل على انحصار الحياة البيولوجية بهذه الصورة التي لا يمكن أن تتم إلا في الأرض وما شابهها من ظروف، ومن هنا فصلاحية الأرض للحياة لا تبقى فعلا محكما؛ لأن من المحتَمَل أن تكون جميع الكواكب صالحة لحياة تُناسب ظروفها.
الجواب
هذا الإشكال في غير محله؛ وذلك لأنّه لا ريب في أن الحياة التي نعهدها لا تصلح إلا في ظروف خاصة وحدود معيّنة، ولا يمكن من الناحية العلمية أن تستقر هذه الحياة في غير هذه الظروف وما يُقاربها، ومن ثَمّ تجري ضابطة الفعل المحكم في إيجاد الأرض على هذه الصورة.
وأما احتمال إمكانية الحياة بصور مختلفة تُناسب الظروف الأخرى، فهذا أجنبي عن محل الكلام؛ لأنّه لو صح مثل هذا الكلام لكانت الحياة الأخرى مختلفة عن الحياة التي نعهدها؛ لأن قوانينها وشؤونها مختلفة عن الحياة التي نعهدها.
وغير خفي أن ضابطة الفعل المحكم جرت في نشأة الأرض والمجموعة الشمسية، إنما جرت بلحاظ الحياة التي نعهدها لا بلحاظ مطلق الحياة ليأتي هذا الإشكال، ولا يخفى أن الحياة المعهودة ذات شروط خاصة لا يمكن توفّرها في أي موضع من كوننا الواسع، وهذا كاف لتطبيق ضابط الفعل المحكم.
ولتقريب الصورة نضرب مثالا، فنقول: لنفترض وجود نوع من النمل لا يعيش إلا في درجة حرارة نادرة التوفر في الطبيعة، ولا يعيش إلا في نوع خاص نادر من التراب على أن تتوفر درجة معيّنة جدا من الرطوبة في هذا التراب، ولا يعيش إلا عند توفّر طعام خاص له نادر الوجود في الطبيعة، ولا يعيش إلا …
ثم وجدنا توفّر هذه الظروف جميعا في بيت من بيوت البشر ووجدنا أن هذا النمل عاش في هذا الموضع، إننا سنُجري حينئذ ضابطة الفعل المحكم على توفير هذه الظروف بلحاظ هذا النوع من النمل وإن كان من الممكن أن تتواجد أنواع أخرى من النمل في هذا البيت من دون حاجة إلى تلك الظروف.
التطبيق الثالث: نشوء الكائن الحي:
أبسط أشكال الحياة التي يمكن تصورها –وفقا لما تقرر في علم الأحياء- تُمثّل تركيبا بالغَ التعقيد، فالخلية الحية في أبسط صورها كائن معقد جدا، يصعب جدا تصور درجة تعقيده فضلا عن التصديق بها، فلا ريب أن الخلية الحية الأولى “فعل محكم”؛ لتوفر أركان الفعل المحكم، وهي: المادة القابلة لأكثر من هيئة (مادة الخلية الحية تقبل أكثر من ترتيب وتنظيم)، والهيئة الحاصلة يترتب عليها غاية خاصة (خصوصيات الخلية الحية تبرر تحقق الوظائف التي تقوم عليها الحياة)، ونسبة الهيئات المحققة للغاية قليلة جدا جدا بالنسبة للهيئات الممكنة.
التطبيق الرابع: نشوء الكائنات الحية الأخرى:
لا ريب أن كل كائن حي له تركيبة معقدة تختلف عن الكائنات الحية، فرغم تركبها من خلايا متعددة، وكل خلية لها تعقيدها الخاص بها، ومن هنا يتضح أن كل كائن حي يمثل “فعلا محكما”؛ لتوفر أركان الفعل المحكم، وهي: المادة القابلة لأكثر من هيئة (مادة الكائن الحي تقبل أكثر من تنظيم وتوزيع)، والهيئة الحاصلة يترتب عليها غاية خاصة (خصوصيات ترتيب مادة الكائن الحي المعين هي التي تحقق للكائن الحي خصائصه التي من خلالها يحيى ويتميز عن غيره من الكائنات)، ونسبة الهيئات المحققة للغاية قليلة جدا بالنسبة للهيئات الممكنة.
هذا، ويمكن أن يكون للإنسان خصوصية في المقام، كما سيتضح عند الكلام حول الإشكال الناشئ من نظرية داروين بإذن الله.
إشكال
قد يورد إشكال على التطبيق الرابع من تطبيقات برهان النظام في الطبيعة من خلال الاعتماد على نظرية داروين في التطور -والتي حاصلها: أنّه يوجد مادة حية قابلة للتكاثر الكبير جدا، وينتج من التكاثر أفراد مختلفة في بعض الصفات، ويستمر هذا التنوع في الصفات على خط طويل من الزمن، ولمّا كانت الطبيعة بظروفها لا تناسب حجم التكاثر الناتج، فلا بد من انقراض مجموعة مما نتج من التكاثر، والذي يُعيّن الأفراد الباقية هو الطبيعة من خلال الصفات، فإذا كانت الصفات في بعض الأفراد صالحة للاستمرار في الحياة؛ استبقتها الطبيعة “انتخاب طبيعي” من خلال هلاك غيرها ونجاتها، وتدريجا وعلى خط طويل من الزمن تُستَبقى الصفات الصالحة وتتراكم، فتنشأ الأنواع المختلفة-، فتكفي هذه النظرية لتفسير التعقيد الموجود في الكائنات الحية، فلا يوجد فعل محكم -حسب هذه النظرية- في نشوء الكائنات الأخرى، وإنما هي طفرات عشوائية تُنتج تغيّرا في الصفات بحيث تستبقيها الطبيعة وفقا لقانون “الانتخاب الطبيعي”، فمن الخطأ تطبيق برهان النظام على نشوء الكائنات الحيّة (التطبيق الرابع).
الجواب:
لو صحت نظرية “داروين” من الناحية العلمية وأثبت العلماء أنه بالإمكان من خلال الطفرات الجينية مع الانتخاب الطبيعي أن ينشأ تنوع وتطور الكائنات الحية؛ فهي لا تعد إشكالاً على تطبيق أمثلة الكائنات الحية على برهان النظام؛ وذلك لأن النظرية وإن اعتمدت على أن التغير بين الكائنات يحصل من خلال الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي اللذين هما حدثان بسيطان غير معقدين، إلا أن هذين الحدثين البسيطين لا يؤثران أثريهما إلا من خلال توفّر بنية معقدة جدا توفّر المجال للتكاثر وتُمكّن الطبيعة من استبقاء الصفات الإيجابية، فنشوء الكائن الحي الأول فعل مُحكم في غاية التعقيد، والتكاثر عملية معقدة جدا، ومن دون افتراض توفر الخلية الحية الأولى التي “صُمّمت” تصميما يتكاثر وينقل الصفات من جيل إلى جيل؛ لا يمكن أن يكون للطفرات والانتخاب الطبيعي أي أثر، والأمر أشبه بالجهاز المعقد جدا الذي يكتب الحروف بمجرد الضغط على الزر، فالضغط على الزر فعل بسيط غير معقد ولكنه لا يفيد شيئا ما لم تكن بنية الجهاز بذلك التعقيد الذي يكفي لكتابة الحرف من خلال ضغط الزر.
ومن هنا فلو صحت نظرية “داروين” لم يكن في البين أي إشكال على تطبيق برهان النظام على الجانب المعقد من الكائنات، فيقال: إن الخلية الحية الأولى لا بد لها من مصمِّم عالم قادر مختار؛ لأن إحكامها عال جدا بحيث تقبل التكاثر وتقبل الطفرات الإيجابية وتقبل استبقاء الصفات الناشئة من تلك الطفرات، ومن هنا يكون إحكام نشوء الكائنات الحية مندمجا في إحكام الخلية الحية الأولى، فكما أن الخلية الحية فعل محكم لأجل أداء الوظائف اللازمة للحياة هي فعل محكم لأجل نشأة الأنواع المختلفة من الكائنات، وهذا كاف لتطبيق برهان النظام.
ومن هنا يتضح أن نظرية “داروين” لا تمثّل إشكالا على برهان النظام وإن استشكل بها من استشكل.
أهم إشكالين على برهان النظام:
يوجد إشكالان يرتبطان بالبنية المنطقية([8]) لبرهان النظام ينبغي التعرض لهما:
الإشكال الأول: منافاة بعض الظواهر لدليل النظام:
كما أن هناك تنظيما ودقة في استغلال قوانين الطبيعة في الكون يوجد في البين أمور تنافي تلك الدقة وذلك التنظيم، وهي: الشرور وضعف كفاءة كثير من المخلوقات([9]) وأشياء كثيرة جداً ليس لها غاية وفائدة في هذا الكون، ومن هنا فدليل النظام مُعارض بهذه الأمور الثلاثة، فلا يتم هذا الدليل.
والجواب:
هذا الإشكال يعتمد على ثلاثة ظواهر لنفي دلالة برهان النظام، والمناسب أن يتم معالجة كل ظاهرة على حدة:
الظاهرة الأولى: أجزاء الكون التي لا غرض لها، فالكون كبير جدا جدا بما يصعب تصوّره، ولا تكاد تُمثّل الأرض في ضمن هذا الكون حبة رمل في صحراء كبرى، وكل هذه الساعة لا نجد لها غاية معقولة!
ويمكن تأسيس جوابين على الإشكال المعتمد على هذه الظاهرة:
الجواب الأول: لا منافاة بين انتفاء الغاية في بعض الأفعال وثبوت الغاية في أفعال أخرى.
يمكن إيضاح هذا الجواب بمثال: لنفترض أن شخصا ألّفَ عشرين كتابا، وكان تسعة عشر كتابا من هذه الكتب مجردَ كتابات عشوائية لا معنى لها بينما كتاب واحد من هذه الكتب كان قصة روائية عظيمة في غاية الدقة والروعة، فالذي نحكم به في هذه الحالة أنّه عندما أَلَّفَ هذا الكتاب الروائي كان عالماً قادراً مختاراً، أما بقية الكتب فإما أنّه قد فقد علمه أو أن له غاية لم نفهمها من تلك الكتب.
فمع التسليم بأنه لا غاية مفهومة من هذا الكون الواسع؛ لا يتزلزل حكمنا بأن وراء الفعل المحكم عالما قادرا مختارا، فلو وجد فعل محكم ومعه مائة فعل غير محكم؛ فسنحكم بأن الفعل المحكم ينتهي لفاعل عالم قادر مختار وأن الأفعال غير المحكمة لا تنافي حكمنا هذا.
الجواب الثاني: لا ملازمة بين عدم معرفتنا بالغاية وبين انتفاء الغاية واقعا.
لا يخفى أن عدم اطّلاعنا على الغاية لا يعني أنه لا توجد غاية من هذه الأجزاء الكونية؛ لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، ومن ثَمّ فليس لنا طريق إلى نفي إحكام تلك الأجزاء الكونية، بل غاية ما في الأمر أنه ليس لنا طريق للعلم بإحكامها من عدم إحكامها.
الظاهرة الثانية: ضعف كفاءة بعض المخلوقات، فنحن نجد في جملة من الكائنات الحية مشاكل في كفاءتها للبقاء، فكل الكائنات الحية التي نعرفها لها نقاط ضعف تجعلها مُعَرّضة للموت وعدم القدرة على البقاء.
والجواب على ما يرتبط بهذه الظاهرة: أنه تَبيّن سابقا أن الفعل المحكم يكشف عن عالم قادر مختار، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّه لا يُبيّن ولا يكشف الهدف التفصيلي الذي قصده الفاعل المختار من الفعل المُحكم، فمثلا: إن رأينا قلعة من الرمال على البحر، فسنعلم أن من بنى هذه القلعة عالم قادر مختار، ولكن لن نستطيع من مجرد ملاحظة الإحكام أن نستكشف الغرض الدقيق من وراء بناء القلعة، فقد يكون لتجربة علمية أو للترفيه أو غير ذلك مما يصلح أن يكون غرضا من هذا الفعل.
وكذلك الأمر عندنا في الطبيعة، فإننا باطلاعنا على تكوين الإنسان كمثال على الفعل المحكم نستكشف أنه لا بد من وجود فاعل قادر مختار يقف وراء خلق الإنسان، ولكن هذا لا يعني أن غرض هذا الخالق هو إيجاد كائن لا يشعر بالآلام ويتمتع بأعلى الإمكانات المتصوّرة، فربما يكون الغرض موقوفا على إيجاد كائن ناقص ضعيف، فبرهان النظام لا يكشف الغاية من الفعل المحكم.
ولهذا نظير في حياتنا العملية، فنجد بعض مصانع السيارات تستهدف صنع سيارات بكفاءات أقل من الكفاءة التي يمكن للمصنع أن ينتجها؛ وذلك لأجل تقليل التكلفة المناسب للقوة الشرائية لتلك المنطقة المراد بيع السيارات فيها، فلا بد من تقليل الكفاءة المؤدي إلى تقليل السعر ليتمكن عدد كبير من الناس من شراء هذا النوع من السيارات، ومن الواضح أن صناعة المركبات مع ضعف الكفاءة لا يعني عدم علم وقدرة صاحب المصنع.
الظاهرة الثالثة: وجود الشرور في الكون، فالكون مليء بالآلام والمصائب مما لا يحتاج إلى بيان.
والجواب على ما يرتبط بهذه الظاهرة: أن دليل النظام لا يتعلّق بإثبات صفة العدل في الله تعالى وأنه سبحانه لا يفعل القبيح، فغاية ما في الأمر أنه يُثبت عالما قادرا مختارا وراء هذا النظام، ولا يؤثر كون الغرض خيرا أو شرا في إثبات هذا الأمر.
نعم، وجود الشرور لا يدل على أن الله تعالى يفعل القبيح، وبيان ذلك موكول إلى مباحث العدل الإلهي.
فالحاصل أنه لا منافاة بين دليل النظام وبين هذه الظواهر، فتبقى دلالة الدليل تامة غير مقدوح بها بهذا الإشكال.
الإشكال الثاني: خاصية المادة تُفسّر النظام.
مرَّ أن برهان النظام يعتمد على مبدأين:
المبدأ الأول: الحادث يحتاج إلى سبب.
المبدأ الثاني: الفعل المحكم لا يصدر إلا عن حي مختار عالم قادر.
هذا الإشكال يصادم المبدأ الثاني؛ إذ يفترض هذا الإشكال أن هناك تفسيرا آخر لحدوث النظام، وهو ما يمكن تسميته بـ”خاصّية المادة”، فالمادّة من خلال خصائصها الذاتية تكفي لتبرير هذا النظام ولا نحتاج بعد ذلك افتراض عالم قادر مختار وراء هذا النظام.
ولمّا كان الغرض من هذه المحاولة هو البحث الموضوعي؛ ارتأيت أن أعرض الإشكال بأقوى ما يمكن صياغته ولا أتقيد بصياغة متداولة لهذا الإشكال هنا وهناك، والصياغة المختارة للإشكال تتضح بالبيان التالي:
المرحلة الأولى: بيان انتفاء المنافاة بين “خاصية المادة” و”الصفة المجعولة للمادة”، وبيان ذلك في نقطتين:
النقطة الأولى: “خاصية الشيء” هي ما يتلازم معه ولا ينفك عنه، مثل كون الماء لا طعم له ولا رائحة ولا لون.
النقطة الثانية: “الصفة المجعولة” هي الصفة التي يتصف بها الشيء من خلال سبب ما، وهذه ليست متلازمة مع الشيء؛ لأن وجود سبب لها يعني أن وجودها يتبع توفّر سببها، ومن هنا فيمكن أن نتصور انفكاك الصفة عن الشيء فيما لو لم يتوفّر سببها، وبالتالي فالصفة المجعولة ليست متلازمة مع الشيء وتقبل الانفكاك عنه.
يستنتج من هاتين النقطتين أن خاصية الشيء صفة غير مجعولة وأن الصفة المجعولة لا يصح أن تُعَدّ من خصائص المادة، فالحاصل أن هناك تنافيا بين “خاصية المادة” و”الصفة المجعولة” ولا يمكن الجمع بينهما.
المرحلة الثانية: بيان إمكانية كون النظام صفة غير مجعولة، وبالتالي لا يتم دليل النظام.
النقطة الأولى: النظام الكوني ليس إلا صفة لمادة هذا الكون، ومن هنا يقع السؤال حول طبيعة هذه الصفة، فلا يخلو أمرها من أن تكون خاصية للمادة أو صفةً مجعولة.
النقطة الثانية: لا يتم برهان النظام، إلا إذا كان النظام صفة مجعولة؛ لأنه ما لم يثبت كون النظام صفة مجعولة لا يمكن تطبيق المبدأ الأول؛ لأن النظام حينئذ يكون من شؤون المادة وخصائصها وليس مسبّبا عن شيء.
ومن ثَمّ لا يمكن تطبيق المبدأ الثاني؛ لأن المبدأ الثاني فرع المبدأ الأول؛ إذ يفترض المبدأ الثاني أن هناك فعلا مُحكما، ولا يخفى أنه مع عدم إحراز كون النظام مُسبّبا، لا يمكن أن يكون فعلا لأحد، فهو مجرد خاصية للمادة لا أكثر ولا أقل.
وحتى لو فرضنا تطبيق المبدأ الأول لم يمكن تطبيق المبدأ الثاني على النظام؛ لأن النظام وإن كان مُسبّبا، إلا أن السبب هو المادة فقط، فهي بخاصّيّتها أنشأت هذا النظام، فيكون منشأ النظام حينئذ هو نفس المادة وليس أمرا خارجا عن المادة، ومع هذا الاحتمال لا يمكن إثبات وجود منظم حي عالم مختار قادر.
النقطة الثالثة: كما يُحتمل أن يكون النظام أمرا مجعولا يمكن أيضا أن يكون خاصيةً للمادة غير مجعولة، ومع هذا الاحتمال لا يمكن إثبات وجود الله من خلال ملاحظة النظام.
فالحاصل أن دليل النظام غير تام؛ لأنه كما يمكن تفسير النظام على أنه مفعول من قبل منظم خارج المادة يمكن أيضا تفسيره على أنه خاصية للمادة، ومع هذا الاحتمال لا يتم الدليل.
الجواب:
لا إشكال في صحة ما تم تقريره في المرحلة الأولى، فلا كلام من هذه الجهة.
وإنما الكلام كل الكلام حول إمكانية كون النظام صفة غير مجعولة ومن خصائص المادة –وهو العمدة في تقرير المرحلة الثانية من الإشكال-، والصحيح أن ذلك غير ممكن، ويمكن تأسيس بيانَيْن لبيان انتفاء تلك الإمكانية:
البيان الأول: ويمكن بيانه في نقطتين:
النقطة الأولى: لا يخفى أن المادة ثابتة رغم تغيّر الهيئة.
ففي مثال الطابوق: عندما نغيّر هيئة الطابوق من هيئة المربع إلى هيئة المستطيل أو المسدّس نلاحظ أن الطابوق هو نفسه لم يتغير، والذي تغيّر هو خصوص الهيئة.
وكذلك الأمر في كوننا الواسع، فعندما يحصل تغير في هيئة العالم بتحرك الشمس أو بأي صورة أخرى من صور التغير تبقى المادة على ما هي عليه.
وذلك جار حتى في التغيرات الكيميائية والنووية، فمادة الماء هي نفسها مادة الهيدروجين والأكسجين، وغاية ما في الأمر أن الارتباط الأيوني (الهيئة) تارة يكون متحققاً، كما في حالة الماء وتارة لا يكون متحققاً، كما في حالة غازي الهيدروجين والأكسجين المنفصلين، والمادة في كلا الصورتين واحدة.
وكذلك الأمر في التغير النووي، فالمادة هي الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات، وهي واحدة سواء اندمج الهيدروجين ليتكون الهيليوم أو انشطر الهيليوم ليتكون الهيدروجين، وهكذا.
فالحاصل أننا نجد مادة كوننا ثابتة وهيئته هي المتغيرة بأقسام التغيرات وأشكالها.
النقطة الثانية: خاصية المادة لا تتغير:
مرَّ سابقا في بيان خاصية المادة أن خاصية المادة هي الصفات الملازمة للمادة التي لا تنفك عنها، ومعنى الملازمة أن خاصية المادة يجب أن تكون ثابتة غير متغيرة، وإلا لم تكن خاصية.
والنتيجة من هاتين النقطتين أن النظام الكوني لا يمكن أن يكون بمقتضى خاصّية المادة؛ لأن خاصية المادة لا يمكن أن تتغير -وفقا للنقطة الثانية- بينما شأن النظام والهيئة الكونية هو التغير المستمر –وفقا للنقطة الأولى-، فثبت من خلال ذلك أن النظام الكوني لا يمكن أن يكون ناشئا من خاصية المادة، فهو صفة مجعولة، ومن ثَمّ يصح تطبيق برهان النظام بشكل سليم عليه.
وربما يقال في الاعتراض على هذا البيان أن منشأ التغيّر في الهيئة هو وجود مواد متنوعة في الكون، ومن خلال هذا التنوع ستتعدد خواص هذه المواد، ومن خلال تفاعل هذه الخواص المتعددة مع بعضها البعض ينشأ النظام الذي نراه.
وهذا غير صحيح؛ لأن الخواص وإن تعددت فذلك لا يفسر حصول نظام مترابط إلا إذا تم ربط المواد فيما بينها ربطا خاصا يؤدي إلى هذا الانتظام، وهذا الربط الخاص ليس إلا تنظيما وترتيبا وتهيئة للمواد بحيث تنتج هذا النظام، وهذا اعتراف بضرورة التنظيم الناشئ من سبب خارج عن المادة.
وبعبارة أخرى: لا يخلو أمر المواد المتعددة: إما أن تقبل ترتيبات متعددة أو لا تقبل الترتيب…
فإن كانت تقبل ترتيبات معيّنة فهذا اعتراف بضرورة التنظيم الخارج عن المادة.
وإن كانت لا تقبل الترتيب، فلا يمكن أن تؤدي إلى إيجاد نظام؛ لأن كل مادة ستؤثر أثرها الخاص بها من دون أن يحصل أي تغيّر في تلك المادة ولا في أثرها، ومع عدم التغير في آثار المادة لا يمكن أن يتحصل نظام يقبل التعدد كما حال كوننا الذي نحن فيه.
ويمكن توضيح المسألة من خلال عرض الإشكال بعبارات علمية متناسبة مع الطرح العلمي المتعارف، فيقال: إن قوانين الكون هي التي تُفَسّر هذا النظام بالهيئة التي هو عليها.
وهذا الكلام غير صحيح؛ لأن القانون يحكي عن خاصية المادة على نحو القضية الشرطية، فيقال مثلا: يغلي الماء عند درجة 100 سيليزية تحت ضغط 1atm، ويقال: كلما زاد البعد بين جسمين قلت قوة التجاذب بينهما وكلما اقتربا ازدادت قوة التجاذب بينهما، ويقال: تنتقل الحرارة من الجسم الساخن إلى الجسم الأقل سخونة إلى أن تتساوى درجة حرارتهما، وهكذا.
فالملاحظ أن جميع قوانين الطبيعة تُفَسّر ترتب بعض الآثار عند ظروف معيّنة، ولا تُفسّر ترتّب تلك الظروف التي من خلالها يعمل القانون عملا معيّنا.
فهناك شرط لا بد من أن يتحقق لعمل القانون فيؤثر أثره، ومن دون هذا الشرط لا يؤثر القانون أثره الخاص، والقانون لا يُفَسّر تحقق الشرط يكتفي فقط بتفسير ما يقع بعد تحقق الشرط.
فإذا اتضح ذلك يتضح أن القوانين محايدة تجاه الظروف التي عندها يعمل القانون، من هنا فلا يصلح أن تُفسّر انتظام الكون على الهيئة التي هو عليها؛ لأن الهيئة الحالية للكون ناشئة من أمرين:
الأمر الأول: القوانين الطبيعية.
الأمر الثاني: توفير الظروف المناسبة لعمل القوانين الطبيعية عملا خاصا متميزا.
والقوانين الطبيعية لا تُفَسّر الأمر الثاني البتة.
ومن هنا فلا بد من وجود من يعلم بالقوانين الطبيعية فيستغلّها الاستغلال الذي يحقق الأغراض المميزة، ومن هنا يجري برهان النظام، فبرهان النظام لا يجري في نفس القوانين الطبيعية، بل يجري في استغلال تلك القوانين استغلالا محققا لغرض خاص، ولا نريد بالنظام إلا استغلالا متميزا للقوانين.
فالحاصل أن قوانين الطبيعة لا تصلح بديلا عن التنظيم الذي يبتني عليه برهان النظام، بل يعتمد برهان النظام على وجود قوانين ويبتني على الاستدلال باستغلال تلك القوانين، وهذا الاستغلال لا يفسره القانون الطبيعي، بل هو محايد تجاهه، فلا بد من وجود من يستغل تلك القوانين من خلال إحداث هيئات وتنظيمات وترتيبات لمادة الكون.
البيان الثاني: احتياج المادة إلى الهيئة ينافي تأثيرها في وجودها.
النقطة الأولى: مرَّ في البيان الأول أن هيئة الكون متغيرة رغم ثبات مادّته.
النقطة الثانية: لا يمكن أن تكون الهيئة هي نفس المادة؛ لأن معنى هذا أن يكون الثابت والمتغير شيئا واحدا، وهذا جمع بين النقيضين؛ لأن التغير نقيض الثبات والثبات نقيض التغير.
النقطة الثالثة: لا يمكن أن توجد المادة من دون هيئة، ولا يمكن أن توجد الهيئة من دون مادة، وهذا واضح بأدنى تأمّل، فلا يمكننا أن نتصور العالم من دون أن يكون متعيّنا في هيئة خاصة، ولا يمكننا أن نتصور هيئة من دون عالم مادي توجد فيه.
ومن خلال هذه النقاط الثلاث نستكشف أن كُلاًّ من المادة والهيئة –واللذان هما شيئان متغايران- يحتاج كل منهما للآخر، ومن ثَم فلا يمكن أن يكون أحدهما هو الذي أنشأ الآخر، ومن ثَم فلا يمكن أن يُدّعى أن المادة بخاصّيتها هي التي كونت الهيئة؛ لأنها في الحقيقة تحتاج إلى هيئة لكي توجد، فكيف تكون هي الموجِدة والمؤثرة في وجود الهيئة؟!
فيتضح أنه لا يمكن تفسير هذه الهيئة وهذا النظام بنفس المادة، كما يفترض هيوم، بل لا بد من سبب آخر مغاير للمادة.
فتحصّل أن شبهة خاصّية المادة لا تصلح لنقد برهان النظام.
خلاصة واستنتاج:
توصل هذا المقال إلى بعض النتائج:
([1]) البحث عن تاريخ برهان النظام وتطوّر تقريراته طويل الذّيل، ولم يكن هذا البرهان معدودا من براهين وجود الإله في كتب علم الكلام والفلسفة المتقدّمة، نعم، كان يُعتمد لإثبات علم الإله بعد الفراغ عن وجوده، وأرى شخصيا أن طريقة القدماء أحكم وأسلم كما بيّنته في التعليق على المتن الكلامي المختصر، ولكنني جريت مع ما تعارف بحثُه اليوم من خلال عد برهان النظام من براهين وجود الإله.
([2]) أفترض هنا أن للعقل إدراكاً للبدهيّات، وأن إدراكه هذا حق وصدق، وأن مناط البداهة هو وضوح صدق القضية.
وتحقيق هذه الفروض موكول إلى علم المعرفة “الابستمولوجيا”.
([3]) لاحظ في التنبيه على بداهة هذا المبدأ مقال منشور على مُدَوّنتي (محاولات فكرية) = (aliabualhasan.wordpress.com) بعنوان “بيان مُبَسّط لمبدأ السببيّة”.
([4]) ولا مانع من أي تسمية كأن نسميها شكلا أو نظاما أو كيفية أو صورة؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح.
([5]) سيأتي في آخر البحث كلام حول التحليل المنطقي لهذا الوجدان.
([6]) كما يجري على لسان البعض من أن الدليل على وجود الله هو هذا التناسب والتناسق والجمال، وهذا في الحقيقة كلام عام لا ينقح مناط الدلالة على الصانع.
([7]) هذه المحاولة لا تتكفّل التطبيق التفصيلي للبرهان على الطبيعة، بل تُركّز هذه المحاولة على تقرير البيان المنطقي للبرهان وبيان سقوط الإشكالات المطروحة في مقابله.
([8]) الإشكال السابق المرتبط بنظرية “داروين” لا يصح عده إشكالا على برهان النظام، بل هو إشكال مختص بتطبيق من تطبيقات برهان النظام في الطبيعة، ولهذا لم أعتبره من الإشكالات على نفس البرهان.
([9]) وأهم شاهد على ذلك هو كثرة الحيوانات المنقرضة في الطبيعة.
إرسال تعليقاتكم واقتراحاتكم